الجيش الجزائري في منعرج حاسم: إنقاذ الدولة أم حماية السلطة
الجيش الجزائري في منعرج حاسم: إنقاذ الدولة أم حماية السلطة
في 18 أبريل المقبل، يتوجه الجزائريون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس للبلاد، بعد جدل كبير أحاط بعملية ترشيح الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، لولاية خامسة. لكن، وعلى خلاف كل الانتخابات التي عرفتها البلاد منذ الاستقلال، ومهما كانت النتيجة، الأكيد أن هذه المنافسة الرئاسية والاضطرابات الاجتماعية التي تحيط بها تسطر بداية النهاية لسياسة سارت عليها الجزائر منذ الاستقلال، كما ستحدد مستقبل الجيش الذي كان يصنع رؤساء البلاد، وصاحب ورقة الحسم في القرارات الكبرى.
الجزائر – يشكل التاريخ السياسي للجزائر، خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وحرب الاستقلال (1962-1954)، ثم العشرية السوداء، مراجع رئيسية لفهم طبيعة الحكم المحكم والغامض في الجزائر، ولماذا يتشبث طرف كبير من صانعي السياسة في البلاد بترشيح رئيس عاجز بكل المقاييس، لتولي حكم بلد بحجم الجزائر على قدر ما يمتلك من موارد طبيعية وجغرافية وبشرية فإنه يعاني من أزمات ويواجه تحديات عاصفة وصلت ذروتها مؤخرا، مهددة بإحداث تغيير دائم.
قد تبدو الأزمة الراهنة في الجزائر، في ظاهرها مرتبطة برفض الملايين من الجزائريين ترشيح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة. فيما يربطها البعض بالأزمة الاقتصادية وغلاء المعيشة وارتفاع نسبة البطالة في مجتمع يغلب عليه الشباب. لكن، هذه الأسباب ليست سوى واجهة أزمة أعمق ترتبط بتاريخ بات بعيدا عن أزمات البلاد الراهنة وإن امتدت علله إلى اليوم، وبطبيعة الحكم في الجزائر والمؤسسة الرئيسية في صناعة كل ما يتعلق بالبلاد والعباد، وهي الجيش.
بغض النظر عمن سيفوز، ستكون الانتخابات المقبلة اختبارا للمؤسسة العسكرية لأن نتيجتها ستكون مفصلية في مستقبلها وعقيدتها ورمزيتها لدى الجزائريين. اليوم الجيش الذي احتمت به البلاد للحفاظ على أركانها خلال العشرية السوداء، وليحول دون سقوطها بين أيدي المتشددين الإسلاميين، يتنازعه خياران، فهو مجبر على تحمل تبعاتهما، فإما الانحياز لحماية الدولة والشعب، وإما القبول بمهمة حماية السلطة، بكل ما ستفرضه التطورات من تغيير.
مرحلة عصيبة
رغم تصاعد الاحتجاجات ضد ولاية خامسة لبوتفليقة، ظل الرجل الأول في الجيش الجنرال أحمد قايد صالح أحد أكثر مؤيدي الرئيس نفوذا. وقد عمل، إلى آخر لحظة، قبل انتهاء موعد تقديم الترشيحات، على إبقاء الجيش في صف بوتفليقة، في موقف يعتبره البعض رد فعل عادي حيث لم يتوافر بديل يمكن الوثوق فيه لمواجهة منافسين محتملين في المستقبل، من خارج المؤسسة العسكرية.
وحمل خطاب قايد صالح، الذي ألقاه أمام كبار الضباط والمنتسبين في مقر الناحية العسكرية السادسة بتمنراست مطلع الأسبوع الماضي، رسائل مخيبة لآمال الجزائريين، وخاصة أنصار الحراك الشعبي، الذين كانوا يتطلعون إلى اصطفاف علني من الجيش إلى جانبهم. لكن، هذا الخطاب لم ينجح في إخفاء حالة الانقسام التي سادت المؤسسة العسكرية، حيث التفاعل بين العناصر القيادية مع القضايا المصيرية للبلاد تجاوزته الحسابات الضيقة والولاءات. وكشف الاجتماع الذي عقده الجنرال قايد صالح، مع كبار ضباط المؤسسة، في أعقاب مسيرة الـ22 فبراير الماضي، حجم الخلافات حول موقف قادة المؤسسة من التطورات السياسية المتسارعة والحراك الشعبي المتنامي، بما يوحي بأن الجيش فقد ورقة الحسم، وربما باتت المسائل تتجاوزه.
خطاب أحمد قايد صالح، الذي ألقاه أمام كبار الضباط والمنتسبين في مقر الناحية العسكرية السادسة بتمنراست مطلع الأسبوع الماضي، رسائل مخيبة لآمال الجزائريين، وخاصة أنصار الحراك الشعبي، الذين كانوا يتطلعون إلى اصطفاف علني من الجيش إلى جانبهم
وإذا كانت المؤسسة التي استلهمت عقيدتها من ثورة التحرير، وتأسست على أنقاض النضال الثوري الذين حرر البلاد (1954 – 1962)، قد تأخرت عن أداء دورها في التطورات والمخاطر الداخلية والخارجية الراهنة، قياسا بدورها في حسم الملفات الشائكة في الماضي، فإن هناك العديد من العوامل التي ساهمت في خلخلة المؤسسة أمام التطورات المتسارعة.
يعتبر الجيش في الجزائر مهندس السياسات وصانع كل الرؤساء الذين عرفتهم الجزائر المستقلة، حيث لم تتردد المؤسسة العسكرية في كشف أوراقها لما رأت بأن سلطة الرئيس الأول للبلاد أحمد بن بلة، لم تعد تمثل طموحات الثورة والشعب وانقلبت عليه في يونيو 1965 تحت مسمى التصحيح الثوري.
ولما احتدم الصراع في نهاية 1978 ومطلع 1979 حول خلافة الرئيس الراحل هواري بومدين، بين رجل الحزب محمد الصالح يحياوي، ووزير الخارجية آنذاك (الرئيس الحالي) عبدالعزيز بوتفليقة، تدخل الجيش وفرض النقيب الشاذلي بن جديد رئيسا للبلاد.
وفي مطلع يناير 1992 تدخل الجيش لوقف المسار الانتخابي، بعد صعود إسلاميي جبهة الإنقاذ المحظورة، واستقدم الرجل التاريخي محمد بوضياف من مقر إقامته في المغرب لقيادة المرحلة. وعندما سارت الأمور في غير صالح الجنرالات، جاؤوا بالرئيس السابق اليامين زروال الذي تولى الحكم من سنة 1995 إلى غاية العام 1998.
ولأن تراكمات مرحلة التسعينات، وما شهدته من إرهاب ودموية، وضعت المؤسسة العسكرية في موقف حرج أمام الرأي العام الداخلي والدولي، اهتدى منظرو الجيش، إلى الرجل المتمرس والذكي عبدالعزيز بوتفليقة، الذي جاء بميثاق السلم والمصالحة لإخراجهم وإخراج البلاد من المأزق.
تمكنت حكومة الجزائر من تحقيق استقرار سياسي نسبي خلال العقدين الماضيين، تخللهما من وقت إلى آخر أزمات وتململ شعبي، إلا أنه في كل مرة يصل فيها الغضب الشعبي في الجزائر إلى ذروته، يطل شبح العشرية السوداء ليخمد أي تصعيد. لكن الأمر كان مجرد مسكّن لم يعد له مفعول اليوم، بعدما انفجر بركان الغضب ليجرف كل المؤسسات، ومنها الجيش.
ويمكن تفسير الفشل في إخماد الاحتجاجات الأخيرة، لا فقط بسبب حجم الغضب الشعبي، بل أيضا بسبب الترهل والخلافات التي أصابت المؤسسة الرئيسية في مقتل. ففي السابق كان هناك توافق تام بين المؤسسة العسكرية والرئاسة، وفي الغالب تتفوق الأولى على الثانية.
لكن، في السنوات الأخيرة لحكم بوتفليقة بدأت تظهر بوادر تغيير، ولم يعد للجنرالات الكلمة الفصل والوحيدة. الحاصل اليوم، أن نفوذ وثقل المؤسسة العسكرية في الجزائر باتا مخترقين، من طرف مراكز قوى مدنية، وعلى رأسها النواة الصلبة في مؤسسة الرئاسة، التي أدارت باقتدار لعبة التوازنات داخل مؤسسات الدولة، إلى أن تمكنت من تطويع العمود الفقري للبلاد، وترويضه لصالحها.
ويذكر عن الرئيس السابق لمجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان) الراحل بشير بومعزة، قولته الشهيرة في سنة 1999، لعدد من كبار ضباط الجيش، “استقدمتموه (بوتفليقة) وستعلقون معه”، في استشراف للوضع الذي يمكن أن تصل إليه البلاد، والمأزق الذي يمكن أن تقع فيه المؤسسة العسكرية بإمكانية تنازلها عن دورها ونفوذها التاريخي في السلطة والمجتمع لصالح بوتفليقة.
تنازلات كبيرة
مهما كانت نهاية بوتفليقة في المشهد السياسي الجزائري، فإن التاريخ سيسجل له أنه الرئيس الجزائري الوحيد الذي استطاع تفكيك نواة المؤسسة العسكرية الجزائرية، وحوّلها إلى أوراق متناثرة يعبث بها كما يشاء ويديرها باقتدار، إلى درجة أنها صارت واحدة من المصالح التابعة لمكتبه في قصر المرادية أو زرالدة.
ويقول مختصون في الشأن الجزائري إن بداية تآكل رمزية وثقل المؤسسة، بدأ من قرار استقدام بوتفليقة إلى السلطة في 1999، فنرجسية الرجل لم تكن تسمح له بأن يرى جهة أو مؤسسة ما تنازعه النجومية أو سلطة القرار، لاسيما وأنه أعلنها صراحة منذ خطاباته الأولى في 1999، بأنه “لن يرضى بأن يكون نصف رئيس أو ثلاثة أرباع رئيس”، في إشارة إلى بعض الصلاحيات واستقلالية بعض المؤسسات عن الرئاسة، وعلى رأسها الجيش وذراعه القوي جهاز الاستخبارات.
مهما كانت نهاية بوتفليقة، في المشهد الجزائري سواء بالاستمرار الوهمي، أو الانسحاب تحت ضغط الغضب الشعبي، فإن التاريخ سيسجل له أنه الرئيس الجزائري الوحيد الذي استطاع تفكيك نواة المؤسسة العسكرية الجزائرية وحوّلها إلى أوراق متناثرة.