الأخبار

هل فوجئت مصر بالزلزال السياسي في السودان

هل فوجئت مصر بالزلزال السياسي في السودان

القاهرة أمام تحديات هامة أبرزها تقليم أظافر الحركة الإسلامية في الخرطوم والقضاء على الكتائب المسلحة في طرابلس.

بعد أيام من إطاحة الجيش السوداني بالرئيس عمر حسن البشير الذي حكم البلاد 30 عاما، لا تزال معالم المرحلة الانتقالية في السودان غير واضحة، فيما تتواصل المظاهرات أمام مقر قيادة الجيش في الخرطوم لمطالبة المجلس العسكري الانتقالي بتسليم السلطة لحكومة مدنية، ضمن تطورات ترصدها دول الجوار باهتمام بالغ، نظرا إلى تداعياتها على السودان، وعربيا وأفريقيا، كما توليها مصر أولوية قصوى، خاصة مع تزامن التطورات في السودان مع تقدم المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، نحو طرابلس ضمن تغييرات تجد القاهرة نفسها منخرطة فيها وإن بدرجات متفاوتة.

القاهرة – جذبت الأحداث في السودان دولا كثيرة في المنطقة، جعلتها تتابعها عن قرب من دون قدرة كبيرة على التأثير في مجرياتها. البعض تمنى أن يستمر الرئيس عمر حسن البشير ويقاوم عاصفة المظاهرات خوفا من دخول البلاد في مصير مجهول. والبعض الآخر رغب في رحيله مع استمرار النظام الذي يحمل جينات واضحة للحركة الإسلامية. وهناك فئة ثالثة رغبت في رحيل البشير والنظام والتأسيس لمرحلة مدنية.
وتوجد رؤية رابعة مع التقسيمات السابقة لم تأخذ حظها من الاهتمام، وتمنت رحيل البشير والنظام وتمكين المؤسسة العسكرية الوطنية وحدها من الحكم مع التخلص من الرواسب الإسلامية في الجيش. وهي معادلة قاسية، لأن الحكم الذي جثم على صدر السودان لنحو ثلاثين عاما نجح في غرس أذرعه وعيونه وآذانه وكل أعضاء جسمه في المؤسسات الرئيسية بالبلاد، ما جعل مهمّة اقتلاعه من جذوره عملية صعبة وتحتاج إلى المزيد من التريث.
يبدو التعامل المصري الظاهر مع السودان فضفاضا حتى الآن، واستخدم كلمات تعبر عن الرغبة في الهدوء والسلام والتسوية والحفاظ على وحدة البلاد وتأييد خيارات المواطنين. وهي كلمات عامة تصلح مع كثير من التطورات الغامضة، ويمكن أن يتقبلها المجلس العسكري الانتقالي، ولا يمانع المتظاهرون في ابتلاعها.
التعلم من الماضي
لدى قطاع كبير من السودانيين حساسية تاريخية مفرطة تجاه مصر، جعلتها دائما أكثر حذرا وتريثا في مواقفها إزاء الخرطوم، وأدى الخلاف في بعض القضايا إلى مناوشات عديدة خلال السنوات الماضية، أوشكت على الوصول إلى حد الصدام، عندما اتهم مسؤولون سودانيون مصر بحشد قوات بالقرب من الحدود المشتركة وتقديم دعم عسكري للمعارضة لتغيير النظام.
يأتي البطء المصري في التعامل مع التطورات الساخنة في السودان من رحم عوامل مختلفة، أبرزها أن القاهرة ابتلعت الطعم السياسي الذي قدمه ما يسمى بـ”ثورة الإنقاذ” في 30 يونيو 1989، وأيدت التحرك العسكري الذي احتل واجهته العقيد عمر البشير، ثم اكتشفت أن الانقلاب وقف خلفه الدكتور حسن الترابي ورفاقه من الإسلاميين.
لم تثق القاهرة يوما في الرئيس عمر البشير، الواجهة للحركة الإسلاميةلم تثق القاهرة يوما في الرئيس عمر البشير، الواجهة للحركة الإسلامية
استوعب النظام المصري آنذاك الفاجعة وتعامل مع الموقف بليونة، لأن التيار الإسلامي في مصر كان ملتزما بقواعد لعبة سياسية لها ركائز للتفاهم الضمني مع الحكومة، إلى أن بدأت القاهرة تعاني جراء تبني الخرطوم خطابا سياسيا تحكّمت فيه حسابات أيديولوجية.
كادت هذه الحسابات أن تفضي إلى إنهاء حياة الرئيس المصري حسني مبارك في عملية تفجير دبرتها خلية سودانية متطرفة لاغتياله في أديس أبابا عام 1995، بعدها اكتشفت القاهرة أن هذه المجموعة من تدبير حسن الترابي.
تمثل هذه المعطيات أحدَ أسباب التريث المصري في التعاطي مع التطورات المتسارعة في السودان، لأن القاهرة تخشى دعم المجلس العسكري الانتقالي صراحة باعتباره ينتمي إلى الجيوش النظامية التي تحظى بتأييدها ثم تكتشف أنه خدعة أو واجهة أخرى لنظام البشير، صاحب التوجهات الإسلامية، وتتعرّض للخدعة ذاتها مرتين.
تعتقد أن المظاهرات تفتقر إلى الآلية السياسية التي تمكنها من فرض شروطها على المجلس العسكري الانتقالي، كما أن التجربة مع الأحزاب التقليدية غير مطمئنة، ناهيك عن الترهل الذي أصابها وإخفاقها في هز أركان نظام عمر البشير، بصورة قللت من قوتها في الشارع على مدار السنوات الماضية، ولذلك ليس هناك بد من محاولة تقليم الأظافر ومنح الفرصة لصعود قيادات وطنية في المؤسسة العسكرية.
ترى دوائر مصرية تتابع الملف السوداني عن كثب أن الوضع العام مربك، ويفرض عدم التعامل معه وفقا لرؤية واحدة، وجرى تجنب اللجوء إلى الصدام منذ فترة طويلة لعدم منح الخرطوم فرصة للتمادي في تصرفاتها السلبية، وقطع الطريق على القوى التي تتمنى الوصول إلى هذا المربع، الذي يسمح بانهماك مصر في مشكلة جديدة على مقربة من حدودها الجنوبية.
تقديم تنازلات
Thumbnail
أدركت القاهرة أن اقتراب تركيا وقطر من النظام السوداني، خلال الفترة الماضية، يستوجب الليونة وليس الخشونة، لأن الطبقة الإسلامية الحاكمة في الخرطوم ستتخذ من ذلك ذريعة لإحداث قطيعة، وتمنح نفسها مبررات استقبال المزيد من العناصر الإسلامية المتشددة والتي تتذمر مصر من وجودها أصلا.
فرضت القضايا الحيوية المشتركة على القاهرة القبول بالكثير من التجاوزات الكلامية التي أقدمت عليها الخرطوم، بل والتغاضي عن توجهاتها الإسلاموية، وصبرت لأبعد مدى، واعتبرت الاحتواء وسيلة جيدة في هذه الحالة، لأن ملف مياه النيل أصبح يمثل خطرا في ظل تصميم إثيوبيا على بناء سد النهضة دون اعتبار لتداعياته السلبية عليها.
ومع تأييد السودان للمشروع باتت مصر تواجه أزمة مزدوجة، والحرب على الإرهاب مضنية ولها امتدادات إقليمية، وبات السودان أحد أفنيتها الخلفية. لم يكن أمام الحكومة المصرية سوى الصبر على النظام السوداني، حتى جاءت لحظة ضعف نادرة مع اندلاع شرارة المظاهرات في 19 ديسمبر الماضي، وقتها بدا البشير أكثر استعدادا للتنازل في تعامله مع القاهرة، ويريد كسبها إلى صفه وربما مساندته علانية.
ووجدت في الوهن الذي أصابه صيغة مثالية، فلا هي تريد سقوطه خوفا من ظهور أشباح أشد ضراوة، ولا تريد له النهوض والانتصار على المتظاهرين، ووقتها سيكون أكثر صلابة، ما يمكنه من تبني سياسات وتوجهات يمكن أن تمثل مصدر إزعاج إقليمي.

يمثل ما يدور في ليبيا والسودان تحديا إستراتيجيا كبيرا، عبوره يؤكد انتصار القاهرة في معركتها مع المتشددين، وأي اهتزاز في هذه المعادلة سيضاعف معاناتها في المنطقة

هذه الحيرة من العلامات البارزة في الأداء المصري، الذي مال في البداية إلى عدم الالتفات إلى الاحتجاجات، ومضى في جدول الأعمال العادي مع الخرطوم، من زيارات ولقاءات ناقشت قضايا مشتركة، مع مراعاة عدم تقديم وعود محددة للتأييد.
واتهم البعض من السودانيين وقتها النظام المصري بأنه يقف وراء البشير، وراجت شائعات حول تقديم مدد من المعدات التي يستخدمها جهاز الشرطة في قمع التظاهرات، ولم يتم دحضها رسميا، لكنها تتنافى مع التصرفات العامة حيال الخرطوم، لأن هناك نحو خمسة ملايين سوداني في مصر، وعدد كبير من قادة المعارضة يقيمون فيها، ما يعني صعوبة تقديم هذا الدعم، لكن ذلك لا ينفي الارتياح لحكم عسكري في السودان من دون غطاء أيديولوجي.
لم يضن النظام المصري على عمر البشير بالنصيحة بحكم خبرة القاهرة الطويلة في التعامل مع المظاهرات، ولم تجزل العطاء المعنوي، خوفا من اتهامها بدعم نظام معروف أنه ارتكب أخطاء فاضحة، وبالتالي ستكون الحكومة التالية مكبلة بقيود سياسية غير إيجابية.
بدت تصرفات مصر المتثاقلة مع أحداث السودان كأنها صدمت بالحركة الاحتجاجية الواسعة، غير أن الحقيقة لم تكن هناك مفاجأة بالمعنى الحرفي للكلمة، لأنها استعدت لاحتمالات متباينة، وبدأت التفكير جديا في الخطة “باء”، والتي تركز على الوسيلة التي يمكن استخدامها مع السودان حال استمر تصعيده وإضراره بالأمن القومي المصري.
الخطة “ج”
تقبل مصر بحكم المؤسسة العسكرية في السودان، وترى وجوها يمكن أن تحافظ على وحدة البلاد لكنها قلقة من مع وجود بقايا نظام البشيرتقبل مصر بحكم المؤسسة العسكرية في السودان، وترى وجوها يمكن أن تحافظ على وحدة البلاد لكنها قلقة مع وجود بقايا نظام البشير
عندما تزايدت وتيرة الضغوط على نظام البشير الأسابيع الماضية، أخذت القاهرة تفكر في ما يمكن وصفه بالخطة “ج” المتعلقة بالتحركات التالية لسقوط البشير، وهي عملية معقدة.
وبقدر ما يشير الرحيل إلى التخلص من صداع مزمن، يحمل في طياته ملامح كابوس، لأن الخروج من المعادلة، بأي صورة، لا يعني وقف التوتر الكامن في العلاقات بين البلدين.
لم تثق القاهرة يوما في الرئيس عمر البشير، وتعلم جيدا أنه واجهة أو ستار للحركة الإسلامية، وكل محاولاته للنأي بعيدا عنها غير مقنعة، ولا تتعدى إطار المناورات للتخلص من بعض المشكلات الخارجية، لكنها مضطرة إلى البناء على هذه الثغرة، ومحاولة توظيفها لتقليل الخسائر، وتحاشي الدخول في مناوشات مباشرة مستندة إلى الانتهازية الشديدة التي صبغت حكمه.
حققت هذه المعادلة نتائج جيدة، أقلّها أبقت الأوضاع على ما هي عليه من سيولة بالنسبة إلى القضايا الخلافية، بل وأجبرت الخرطوم أحيانا على مداراة توجهاتها الحقيقية، وشجعتها الإشارات الإيجابية التي ربطت بين الابتعاد عن الحركة الإسلامية وبين تلقي دعم سياسي من مصر على تحجيم الكثير من الأسماء المعروفة بانتماءاتها العقائدية.
تجد القاهرة أن عملية نقل السلطة من البشير إلى سلطة مدنية ديمقراطية خطوة جيدة، لكن مشكلتها تكمن في تمترس روافد نظام البشير وحزبه (المؤتمر الوطني) في كثير من مفاصل الدولة، ما يجعل عملية خلعهم بحاجة إلى جهود كبيرة.

بقدر ما يشير الرحيل إلى التخلص من صداع مزمن، يحمل في طياته ملامح كابوس، لأن الخروج من المعادلة، بأي صورة، لا يعني وقف التوتر الكامن في العلاقات بين مصر والسودان

وما يزيد من التعقيد أن القوى المدنية غير منظمة بما يضمن تسلم الحكم وإدارته بشكل رشيد الفترة المقبلة، في ظل أوضاع عامة متهرئة أمنيا واقتصاديا واجتماعيا.
تقبل مصر بحكم المؤسسة العسكرية في السودان، وترى وجوها، مثل الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي، يمكن أن تحافظ على وحدة البلاد واستقرارها، لكنها قلقة من مواجهة بعض العقبات التي لن تمكنه من السيطرة على مفاتيح الأمور، مع وجود بقايا نظام البشير، علاوة على احتمال انفلات الشارع لمغالاته في تحقيق جميع مطالب المتظاهرين.
تجد القاهرة نفسها منخرطة، بدرجات متفاوتة، في معركة وعرة مع دولتي الجوار، ليبيا والسودان، وتواجه شبحا واحدا، هو الإسلاميون بألوانهم المختلفة.
إذا لم تستفد القاهرة من عملية الجيش الوطني الليبي في طرابلس وتتخلص سريعا من نفوذ الكتائب المسلحة هناك ستواجه طوفانا من ناحية الجنوب، وإذا نجح نظام البشير في تجديد دمائه وعاد بطبعة جديدة ووجوه أخرى، ستواجه طوفانا ثانيا من جهة الجنوب.
لذلك يمثل ما يدور في البلدين تحديا إستراتيجيا كبيرا، عبوره يؤكد انتصار مصر في معركتها مع المتشددين، وأي اهتزاز في هذه المعادلة سيضاعف معاناتها في المنطقة.
على القاهرة الاستفادة من عملية الجيش الليبي في طرابلس والتخلص سريعا من نفوذ الكتائب المسلحة هناك على القاهرة الاستفادة من عملية الجيش الليبي في طرابلس والتخلص سريعا من نفوذ الكتائب المسلحة هناك 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى