الأخبار

مصر تتجاوز مئة مليون نسمة.. “كفاية 2” لا تكفي!

مصر تتجاوز مئة مليون نسمة.. “كفاية 2” لا تكفي!

خبراء الاجتماع يرون أن الأسر الفقيرة وسكان المناطق الريفية والشعبية هم الأكثر إنجابا، لأنهم يعتبرون وفرة الأبناء سندا اقتصاديا وأياديَ عاملة مجانية للمساعدة في حرف الأبناء بمجالات الصناعة والزراعة.

القاهرة – يتذكر المصريون جملة ردّدها الفنان أحمد ماهر منذ سنوات طويلة، وهو صاحب صوت جهوري، “الراجل مش (ليس) بكلمته.. الراجل براعيته لبيته وأسرته”، حيث ظلت الأسر تسمع تلك الكلمات عبر إعلانات رعتها الحكومة على الشاشات لتوعية المواطنين بأهمية تنظيم النسل والتركيز على تربية وتعليم الأبناء أكثر، دون وضع سقف محدد لعدد الأبناء.

حفظ الناس الكلام ولم يستجيبوا لمعانيه ومضامينه البعيدة، والدليل زيادة عدد السكان في مصر منذ تدشين الحملة الحكومية في بداية التسعينات وحتى عام 2018 بأكثر من 25 مليون شخص، وهو رقم يؤكد أن الحملة الإعلانية لم تؤثر على ثقافة شريحة كبيرة من المصريين ترى في الإنجاب “عزوة” ووسيلة لتحقيق المكاسب.

يتعامل الناس مع مخاطر الزيادة السكانية من دون اكتراث كبير، ويستندون إلى أن عدد المصريين حتى بداية الثمانينات لم يكن قليلا، وكان بلدهم محل اهتمام وتقدم، يتجاوز ما يرونه الآن، ولم يكن ارتفاع عدد السكان عائقا رئيسيا، لأن سياسات الحكومة آنذاك كانت تستوعب جيدا العدد الكبير للمصريين.

وصل سكان مصر في الوقت الحالي إلى 97 مليون نسمة بالداخل مع بداية عام 2019، أي بزيادة قدرها 1.5 مليون نسمة عن العام الماضي، بالإضافة إلى 9 ملايين مصري يعيشون في الخارج. ودقت هذه الزيادة ناقوس الخطر مجددا، محذرة من خطورة الأرقام الضخمة على موارد الدولة إلى جانب عرقلتها لجهود التنمية.

دفعت الأرقام المرتفعة الحكومة إلى اطلاق الحملة الإعلانية “اتنين (2) كفاية”، بطلها الفنان أكرم حسني، وانطلقت حزمة من الأسئلة الجديدة حول ماذا تغيّر من قناعات حول مسألة الزيادة السكانية؟ وما هو سبب الإخفاق الذي يلازم هذه النوعية من الحملات التوعوية؟ وهل تجد الحكومة ملاذا فيها بدلا من زيادة معدلات التنمية؟

مبررات وإجراءات

حملة {اثنين كفاية} أطلقتها الحكومة المصرية لمواجهة ارتفاع سكاني تحول إلى ظاهرة خطرة تجعل مصر تحتل المرتبة الثالثة عشرة على مستوى العالم من حيث عدد السكانحملة “اثنين كفاية” أطلقتها الحكومة المصرية لمواجهة ارتفاع سكاني تحول إلى ظاهرة خطرة تجعل مصر تحتل المرتبة الثالثة عشرة على مستوى العالم من حيث عدد السكان

أعربت نجلاء سليمان، طبيبة أربعينية لديها أربعة أبناء، عن استيائها من دعوات الحكومة إلى الاكتفاء بطفلين فقط، قائلة “تتغير الشعارات، وتبقى الأزمة واحدة، وتحاول الحكومة أن تلقي مسؤولية فشلها في تحقيق تنمية حقيقة على عاتق الشعب”.وأضافت لـ“العرب” أن “الحكومة تنسى دائما تعريف المشكلة السكانية، وهي زيادة معدل النمو السكاني عن معدل الزيادة في الموارد، وتتذكر الجزء الأول من التعريف فقط، وتتهم الفقراء بأنهم السبب في أزمة مصر الاقتصادية، بسبب إقبالهم على الإنجاب دون الاهتمام بالتربية”. وتتساءل “ألا يجب أن ننظر للإنجاب على أنه نعمة ومتعة لهؤلاء الفقراء، على ما يشعرون به من آلام اقتصادية الصعبة، ولماذا نطالبهم بأن يتخلوا عنها إذا كنا نعجز عن تقديم حياة أفضل”.

وأوضحت أن “الحكومة تزعم أن تحقيق تنمية مستدامة سوف يحدث إذا انخفضت الزيادة السكانية، لكن ماذا لو زادت الموارد وأصبحت تكفي عدد السكان، هل يمكن حينها أن يتحقق التوازن، مثلما يحدث في الصين وبدأ مؤخرا في الهند أيضا”.

يلتقط أحمد برعي، أب لأربعة أبناء وموظف في شركة خاصة، كلمات نجلاء مؤكدا أنه طالما ظلت حملات تنظيم النسل مصدرها الجهات الرسمية لن يستجيب لها أحد، أو توضع في الاعتبار، فالأمر متعلق في النهاية بغياب الثقة بين المواطن والحكومة، ويرى عدم جدوى للاستجابة لها، وعلى العكس يعبر عن احتجاجه على أوضاعه بفعل العكس تماما.وقال برعي لـ“العرب” “المصريون أضحوا مجبرين على تقليل عدد الأبناء في الأسرة، بسبب قرارات الحكومة التقشفية، والتي زادت من عجز الأسر عن توفير أساسيات الحياة، ووصل الأمر إلى أن بعضها يخشى على أبنائه أن يعيشوا في مجتمع بائس وحياة صعبة”.

واعتبر أن انخفاض عدد السكان في مصر سيحدث تحسنا على مستوى توفير السلع وزيادة الإنتاج، لكن لا يعني ذلك أن الحياة ستصبح أفضل دون تطوير منظومة التعليم والصحة، حينها تصبح زيادة السكان وانخفاضه بلا قيمة.

ويستعين الكثير من المتابعين بالتجربة الصينية بالنظر إلى نجاحها في استغلال طاقتها البشرية وتطوير منظومتها التعليمية والإنتاجية، للرد على ربط المسؤولين بين تدهور الأوضاع وبين الزيادة السكانية.

وأكد محمد عبدالجليل، الخبير الاقتصادي والمستشار السابق لرئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن “الزيادة السكانية وصلت إلى أرقام غير مسبوقة”، وأضاف “كان معدل الزيادة في السابق كل 50 عاما بمعدل 10 ملايين، ففي عام 1920 كان عدد المصريين وقتها 12 مليون نسمة، ومع حلول عام 1950 وصل التعداد السكاني إلى 20 مليونا، ومنذ عام 2011 وحتى الآن بلغت الزيادة 16 مليون نسمة بمعدل طفل كل 15 ثانية”.

وأوضح في تصريحات لـ”العرب” أن “الهجوم على الحكومة بأنها غير قادرة على استيعاب الزيادة السكانية ومقارنتها بالصين أمر غير منصف، لأن الصين معدل الزيادة السكانية بها يبلغ نحو نصف نسبة الزيادة في مصر، كما أن معدل النمو الاقتصادي في بكين يمثل 14 مرة ضعف الزيادة السكانية، وبالتالي فإن الزيادة ليست عبئا، بينما هي في مصر تمثل مشكلة كبيرة”.

شبكة متراكمة

 النمو السكاني في مصر قضية أمن قومي النمو السكاني في مصر قضية أمن قومي

مع نشوء سجال حول السبب الحقيقي وراء تدهور الأوضاع، بين كثرة الإنجاب وضعف الإنتاج والموارد، يبدو أن المسألة أكبر من فصلها عن بعضها، فالجميع يمثل شبكة من التراكمات تصب جميعها في نفق الفقر والجهل.

يلاحظ أن المشكلات الاجتماعية والسياسية معقدة، وكثرة السكان وقلة المتعلمين تسهمان في إيجاد مواطنين يعيشون في فوضى وعشوائية ليصبحوا بعد ذلك مَفرَغة للجهل، بما يسهل استقطاب هؤلاء لصالح جماعات متشددة.

ويشير بعض الخبراء إلى أن ذلك يعكس فكرة أن النمو السكاني في مصر قضية أمن قومي، أو كما يلقبها البعض بـ”أم الأزمات”، فالانفجار السكاني جمع وطرح تركيبة متأزمة تضر بالاقتصاد والمجتمع والأوضاع الأمنية والسياسية برمتها. ويشدد هؤلاء على أن نسبة النمو السكاني التي بلغت في الوقت الحالي 2.6 بالمئة سنويا، يجب أن يواكبها نمو اقتصادي تصل نسبته إلى 6 بالمئة سنويا، في حين أن النمو الاقتصادي في مصر خلال السنوات الخمس الماضية لم يتجاوز 4 بالمئة، وبالتالي فإن معدلات الجريمة والعنف سوف تصل إلى أعلى مستوياتها خلال السنوات المقبلة.

وتزداد المسألة تعقيدا مع دخول الدين كطرف في الأزمة ومنح شرعية لزيادة الإنجاب، لاسيما أن التيار المتشدد يرى في كثرة الإنجاب خيرا وضرورة، وأي محاولة لتحديد أو الدعوة إلى خفض النسل تقف ضد ما أمر به الله.

ويتفق عبدالصمد حمودة، وهو يجلس وسط أولاده التسعة في دوار صغير بقرية “برك الخيام” جنوب محافظة الجيزة، مع الرأي المتشدد، ويقول “الأطفال نعمة من الله وأمر إلهي بتعمير الأرض، فكيف لنا أن نتحكّم في الأمر، ونضع عددا معينا من الأبناء، ولماذا نجرّم ما أحله الله؟”.

وتابع “أولادي ليسوا عبئا علي، بالعكس هم خير عزوة وسند، ويساعدونني في زراعة الأرض وحصاد المحصول وتوزيعه وبيعه، ولا يوجد شعور أجمل من أن تعيش وسط أولادك، فكثرتهم تزيد الدفء والطمأنينة”.

الحل الجماعي

 النمو السكاني في مصر قضية أمن قومي

تعكس كلمات حمودة تلاحم الأفكار الدينية الداعية إلى كثرة الإنجاب مع الثقافة الشعبية الراسخة لدى المصريين بأن كثرة الأبناء رزق من الله، وهبَة إليهم تبارك زواجهم وعملهم. ولا يجد الكثير من الآباء، خاصة من يعملون في الريف، غضاضة في تسريب الأبناء من التعليم والاستفادة منهم في أعمالهم والحرف التي يعملون بها، ولا يحق للحملات الدعائية الحديث عن تعارض الزيادة السكانية مع التنمية، لأن هناك يقينا بأن كل طفل يأتي يكون حاملا لرزقه معه، ولذلك يتجاهل المصريون تلك الدعوات.

وتدرك الحكومة مدى صعوبة ترسيخ مفهوم تنظيم النسل لدى المواطنين، وظهرت الحملة الأخيرة لأول مرة وهي تتشارك مع جمعيات المجتمع المدني بقوة، ولم تكتف وزارة التضامن الاجتماعي بالتوعية الإعلانية، ودعت أكثر من 100 جمعية منتشرة في المحافظات إلى المشاركة في تقديم جلسات وحملات طرق الأبواب في القرى والنجوع للوصول إلى أكبر عدد ممكن، وقدمت الحكومة مساعدات مالية ولوجستية لتلك الجمعيات.

وحاول البرلمان استخدام أدواته التشريعية لإطلاق قانون يفرض عقوبات على زيادة النسل. ومن بين الاقتراحات حرمان الابن الثالث من الرعاية الصحية والتعليم المجاني، ورفع اسمه من الجمعيات التعاونية التي توفر السلع الأساسية للمواطن.

وتعتقد وفاء سعيد، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، أن الأسر الفقيرة، وسكان المناطق الريفية والشعبية هم الأكثر إنجابا، لأنهم يعتبرون وفرة الأبناء سندا اقتصاديا وأياديَ عاملة مجانية للمساعدة في حرف الأبناء بمجالات الصناعة والزراعة.

وتضيف في تصريحات لـ“العرب” أن “الحملات السابقة والمساعي الحكومية على مدار نصف قرن لم تحقق الغاية المنشودة؛ فلغة المسؤولين وأعضاء البرلمان لا تلمس عقول البسطاء، والحل يكمن في تقديم لغة مختلفة للأجيال الجديدة، ويتم تشكيل وعيهم وأفكارهم بعيدا عن أسرهم التي ترسخ في عقولهم أفكارا قديمة بشأن الإنجاب”.

وتشير إلى أن كل الاستراتيجيات السابقة كانت تخاطب أرباب الأسر دون التركيز على أبنائهم الذين سوف يؤسسون أسرا بالمستقبل، وعند مواجهة الأزمة يجب التركيز على الأجيال الشبابية الجديدة لحل الأزمة بطريقة مستدامة.

واستجابت الحكومة بالفعل إلى تلك الرؤية، وظهر ذلك في الإعلانات التلفزيونية المقدمة، واختارت وزارة التضامن الممثل الكوميدي أكرم حسني، الذي ذاع صيته بشكل واسع مؤخرا، وأضحت له شعبية واسعة بين الشباب، كما أن المادة الإعلانية البسيطة واللغة التي تتسم بالشبابية ربما تنجح في تحقيق تأثير واسع عبر جذب أعين الشباب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى