الأخبار

الانتخابات المبكرة تخدم بقايا نظام البشير وليس الثوار

الانتخابات المبكرة تخدم بقايا نظام البشير وليس الثوار

المجلس العسكري يناور بالتعجيل للاستفادة من افتقاد خصومه للتجربة وعدم جاهزيتهم للمنافسة.
 تؤكد المسافات المتباعدة بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير في السودان صعوبة التوصل إلى رؤية مشتركة لإدارة هذه المرحلة الدقيقة، فكل طرف يسعى إلى توظيف الأوراق التي يمتلكها وتنفيذ مسودة الأفكار الحالمة التي يريدها، ما جعل عملية التفاهم مستعصية، وفرض القفز عليها بحلول من خارج الصندوق.

تصاعدت الأصوات الغاضبة من المجلس العسكري عندما حدّد فترة عامين لإدارة المرحلة الانتقالية، ثم فوجئ السودانيون بوجود مقترح قدّمه تحالف الحرية والتغيير ضاعف هذه الفترة ووصل بها إلى أربعة أعوام، شريطة تشكيل حكومة مدنية وحصر دور الجيش في قضايا الأمن والدفاع من دون القيام بدور حيوي في الملفات السياسية والاقتصادية.

لم تفلح مدة العامين في إقناع المعارضة بقبول إدارة الجيش للبلاد، وأخفقت الأعوام الأربعة وما تحمله من بنود سياسية براقة في إقناع الثاني. وكل طرف لديه مبررات كافية لعدم القبول بوجهة نظر الآخر. وللخروج من المأزق ألمح المجلس باستعداده لإجراء انتخابات خلال ستة أشهر، الأمر الذي وضع قوى الحرية والتغيير في موقف مثير للجدل.

نظرت بعض دوائر تجمع المهنيين والقوى التي انخرطت في العملية السياسية حديثا إلى الفكرة على أنها قفزة في الهواء، لأن الغالبية تفتقر إلى الخبرة الكافية في التعامل مع مستجدات السودان، ما يصب في صالح الأحزاب التقليدية والجماعات المخضرمة التي تجيد لعبة الانتخابات والطقوس اللازمة لجذب المواطنين نحو خطاب سياسي بعينه.

ووجدت دوائر أخرى في الطرح مكرا سياسيا من المجلس العسكري الذي يعرف جيدا إمكانيات خصومه وافتقادهم للتجارب الناضجة. ومع أن هؤلاء يمتلكون جسما صلبا حتى الآن يتمثل في الآلاف من المعتصمين، غير أنهم يفتقرون إلى الرأس المنظّم والهياكل التي تستطيع مواجهة الصعوبات، بكل ما بها من تشابكات داخلية وخارجية.

يعرف المجلس العسكري الإجابة مسبقا عندما رمى بورقة الانتخابات المبكرة، لأن تحالف الحرية والتغيير لم يخدع نفسه، ولم تصب قياداته المتعددة بغرور القوة السياسية أو تنخدع بقدرتها على إسقاط الرئيس عمر حسن البشير في غضون أربعة أشهر، عقب ثلاثة عقود من فشل قوى المعارضة في القيام بهذه المهمة، وحرصت على التحلي بالتواضع، وهي دلالة على حاجتها للمزيد من الخبرات، وقياس مدى تقبل الناس لها، بعد أن تذهب نشوة الانتصار.

وقذفت فكرة التعجيل بحجر كبير في مياه السودان التي بدأت تتدفق بسرعة هائلة، وحققت لمن طرحوها هدفهم في حضّ المعارضة على عدم التشدد في المطالب العامة، وتجنب التمادي في الضغط على المجلس العسكري، والحرص على التلاقي عند نقطة وسط بدلا من التشبث بطروحات ربما يكون من الصعوبة تطبيقها في السودان حاليا، ولا تتماشى مع رغبة المجلس في نقل السلطة تدريجيا، ولا تنسجم مع الترتيبات الحثيثة التي تقوم بها كوادر محسوبة على نظام البشير يراودها الأمل في القبض على زمام السلطة مرة أخرى.

التقطت قوى الحرية والتغيير الإشارة التي ينطوي عليها طرحُ الانتخابات، ويتعلق أساسا بعدم جاهزيتها، بينما تنتظر هذه اللحظة الحاسمة الحركة الإسلامية، ممثلة في حزبي المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي وغيرهما من القوى والأحزاب القريبة والتي تدور في فلكهما السياسي، لأن مدّ أجل الفترة الانتقالية يؤدي إلى تقليص نفوذ فلول البشير في مؤسسات الدولة، وتقوية المعارضة في حلتها الجديدة.

تجيد التنظيمات الإسلامية لعبة الانتخابات والأدوات التي تساعدها على استمالة المواطنين إليها، وتحقق نجاحات كبيرة كلما تضاءلت خبرة خصومها وعدم القدرة على الوصول إلى القواعد المهمّشة في المجتمع، والتي تمثل الحلقة الأضعف وتحسم عملية حشدها النتائج النهاية في عملية الاقتراع.

تكمن الخطورة في عملية التقارب الجارية على قدم وساق بين القوى الإسلامية المختلفة، والتي تناست خلافاتها الحادة سابقا، وبدأت تعيد تموضع عناصرها قبل أن يجرفها طوفان الإقصاء وتتزايد خطوات تضييق الخناق حولها، في ظل توافق (ضمني) محلي وإقليمي ودولي على ضرورة إنهاء سطوة تيار الإسلام السياسي في قلب السلطة بالسودان.

الأصوات الغاضبة تتصاعد ضد المجلس العسكري
الأصوات الغاضبة تتصاعد ضد المجلس العسكري

دعمت قيادات الحركة الإسلامية وبعض الأحزاب القديمة همسا وصراحة فكرة التعجيل بالانتخابات، وأدركت أنها الملاذ الذي يمكن من خلاله استعادة النفوذ، ما جعل المجلس العسكري يتعرّض لانتقادات واسعة، وصلت إلى درجة اتهامه بالمراوغة والتواطؤ مع فلول نظام البشير، والعمل على تمكينهم من العودة بطريقة ديمقراطية، لأنهم يمتلكون الثروة والتنظيم والخبرة والتأثير.

تنتظر الحركة الإسلامية بفارغ الصبر أن يتصاعد الخلاف بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، ويضطر أحدهما أو كلاهما إلى تبني تصرفات تفضي إلى انسداد أفق الحوار بينهما واللجوء إلى أدوات تتسبّب في خلط الأوراق بما يزيد الفجوة بين الطرفين، والتي أخذت ملامحها تتسع وتنذر بالصدام مباشرة.

يتمنى فلول البشير أن يتمسك فريق المعارضة بمواصلة الاعتصام لمدة طويلة، أو اللجوء إلى عصيان مدني، ويريدون أن يحتدم الخلاف بين صفوف تحالف الحرية والتغيير، ودس عناصر موالية للحركة الإسلامية ممن بدأوا في استغلال تسامح الشعب السوداني والتسلل إلى قلب وعقل بعض المعتصمين، كي تنقلب الأمور لصالحهم باعتبارهم القوة الأكثر تنظيما.

يطرب هؤلاء لعدم انجرار المجلس العسكري وراء الأفكار التي طرحت عليه من قبل قيادات المعتصمين، وتغذي بعض العناصر القريبة من التيار الإسلامي التعجيل بإجراء الانتخابات، لأنها تطور يدق إسفينا جديدا في معادلة الحوار المتعثر، وقد يلهي الجدل حولها المجلس الانتقالي وقوى الحرية والتغيير عن الاستمرار في مطاردة فلول نظام البشير.

وإذا تم تنفيذ الاقتراح سوف يتمكنون من الفوز في الانتخابات والعودة على حصان الديمقراطية، وإذا تعثر وتمسك المعتصمون بتشدّدهم سيضطر المجلس العسكري إلى التخلي عن صبره وحذره ويقدم على اتخاذ خطوات تثير غضب الحرية والتغيير.

في جميع الحالات تجد الحركة الإسلامية مصلحتها في ازدياد الهوة بين الجانبين لتؤكد أنها الرقم الذي يصعب تجاهله وربما تجلب تعاطفا إذا أخفق المجلس الانتقالي وقوى التغيير في الالتقاء حول أجندة وطنية مشتركة تحسم الارتباك الحاصل في المناقشات.

أثبت المجلس أنه أقل اندفاعا من قيادات المعارضة، وأكثر وعيا بتعقيدات الواقع السوداني الحافل بمتغيرات على مستويات متعددة. وقد يكون كسب جولة مهمّة خلال الأيام الماضية ووضع المعتصمين أمام خيار يستوجب التعامل مع التطورات برؤية خالية من الشعارات القديمة.

سوف تكشف موافقة المعتصمين على الانتخابات حجم قوتهم في الشارع بما يتجاوز حدود مربع وزارة الدفاع الذي يمكث فيه المتظاهرون، ويمنح تنفيذ الفكرة قوة لأطراف أخرى يقف بعضها على النقيض من تحالف الحرية والتغيير، لأن عملية اجتثاث رموز وبقايا دولة البشير لم تكتمل ولا تزال الذيول قادرة على التأثير.

كما أن التمسّك بالرفض المطلق يعني موافقة على تمديد الفترة الانتقالية وتخفيف ممانعة منح المجلس العسكري المزيد من الصلاحيات، ما يبعث برسالة لدوائر غربية وأفريقية تلحّ على التعجيل بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، تدحض الاتهامات التي يواجهها قادة المجلس بخصوص التمسك بالحكم وعدم الرغبة في العودة إلى الثكنات العسكرية.

تمضي الأمور بوتيرة مسكونة بهواجس قد تعرقل التوصل إلى صيغة مشتركة تخرج السودان من إرث البشير وتراكماته السياسية والأمنية القلقة، وتمنح أتباعه فرصة للرهان على تجذر الخلافات. فبعد أن بدأت مسرحية الانقلاب من داخل القصر تصطدم بحزمة من التحديات الداخلية لم تبق سوى الاستفادة من أخطاء المعتصمين، ونفاد صبر المجلس العسكري، ورمي الكرة بقوة في ملعب الانتخابات المبكرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى