محطات

لماذا يعيش المغتربون في عزلة عن السكان المحليين؟

لماذا يعيش المغتربون في عزلة عن السكان المحليين؟

يقع مركز تانغلين للتسوق على الطرف الغربي من شارع سوانكيست التجاري في سنغافورة، وهو مكون من أربعة طوابق تضم متجرا للمواد الغذائية، وسلسلة من المقاهي والمتاجر التي تبيع ألعابا وكتبا أوروبية. وفي احتفالات عيد الميلاد من كل عام، تحضر العائلات أطفالها للعب في المهرجان السنوي للثلوج. وينظر السنغافوريين إلى مركز تانغلين للتسوق على أنه “متجر الوافدين”.

 

ومن بين المغتربين في سنغافورة جينيفر غارغيولو، إيطالية المولد وتعمل محاضرة للعلوم الإنسانية والآداب في جامعة ييل -سنغافورة الوطنية، ونشرت آرائها عن حياة عائلتها في سنغافورة تحت عنوان: “مذكرات مغتربة في سنغافورة”. وتقول: “لم تكن لدى أدنى فكرة أن السكان المحليين يطلقون على مركز التسوق هذا الاسم”.

وغالبا ما يُنظر للوافدين حول العالم على أنهم يعيشون في محيط اجتماعي خاص بهم، ويتفاعلون مع أولئك الذين يشتركون معهم في اللغة أو القومية. لكن الواقع معقد ومتغير تماما، كما هو الحال مع عالم الوافدين ذاته. وفي الوقت الحالي، يشكل الآسيويون والغربيون غالبية المغتربين، وتسافر أعداد متزايدة من العاملين للخارج بشكل مستقل بدلا من أن يكونوا موظفين موفدين من قبل شركات.

لكن هل يرتبطون بشكل وثيق بمواطنيهم من نفس القومية واللغة أم أنهم يختلطون بأهل البلاد الأصليين؟ وإذا كنت ترغب في معرفة سكان وثقافة البلد الذي سافرت إليه، فما هو السبيل للخروج من الفقاعة التي يعيش الوافدون بداخلها؟

تقول غارغيولو إنه على الرغم من أن معظم أصدقائها من الوافدين، كان عليها أن تتعرف على بعض السكان المحليين في سنغافورة وثقافتهم، من خلال زملائها وعلاقات العمل، وحتى من خلال طلابها. وتضيف: “يمكنك أن تعيش في محيط مغلق تماما، لكنك ستخسر كثيرا. فإذا أردت أن تتعرف على البلد الذي تعيش فيه مغتربا فيما يتعلق بأنواع وعادات الطعام والثقافة، يتعين عليك أن تتعرف على أهل البلاد الأصليين. وبالنسبة لي، يعتبر عكس ذلك مسألة صعبة، أي أن أختار عن وعي البقاء منطوية، وأن أعيش داخل محيط مغلق”.

لماذا يعيش المغتربون في عزلة؟مصدر الصورةGETTY IMAGES
Image captionالكثير من الوافدين يختلطون ببعضهم البعض، لكن هل يعني ذلك أنهم يعيشون في محيط مغلق؟

الحياة في عزلة

في بعض الأماكن التي تزيد فيها أعداد الوافدين على أهل البلاد الأصليين بكثير، يكون البقاء داخل محيط مغلق مع المغتربين فقط ليس أمرا صعبا. ففي دبي، يشكل الأجانب 88 في المئة من إجمالي عدد من يعيشون في الإمارة، كما يشكل الأجانب 76 في المئة من سكان قطر، حسب منظمة الهجرة العالمية.

وليس من المستغرب في هذه الأماكن أن تصل نسبة الوافدين الذين يختلطون اجتماعيا مع بعضهم البعض إلى 65 في المئة في قطر، ونسبة مشابهة في دولة الإمارات العربية المتحدة وبقية دول الخليج، حسب مجموعة “إنترناشينز” العالمية للتواصل مع الوافدين.

وفي بلد كالمملكة العربية السعودية، نجد أن التركيبة السكانية ليست بهذا الشكل الصارخ من التفاوت. لكن القوانين الصارمة التي تحكم المجتمع تجعل من الصعب على الوافدين بناء صداقات مع أناس من المجتمع المحلي. وقال 61 في المئة من الوافدين الذين أجرت “إنترناشينز” مسحا لهم هناك، إنهم وجدوا بناء صداقات مع أهل البلاد أمرا صعبا.

وفي الكويت، قال 31 في المئة من الوافدين إن بناء علاقات صداقة مع كويتيين يعد أمرا “شديد الصعوبة”.

إن طبيعة البلد المضيف – سواء كان بلدا متقدما أو واعدا، منفتحا أو محافظا من الناحية الثقافية – يمكن أن تؤثر أيضا على نوع الدائرة الإجتماعية التي يطورها الوافد حول نفسه.

ووصلت فيونا جافين، التي تعمل في مجال التمويل بشركة متعددة الجنسيات، إلى مدينة يانغون بميانمار قبل سنتين، عندما انفتحت ميانمار على العالم الخارجي. وكان الحكم العسكري للبلاد على مدار عقود قد تسبب في تحويلها إلى أحد أفقر بلدان قارة آسيا على الإطلاق، بعدما كانت أحد أغنى بلدان القارة.

وكانت البنية التحتية للبلاد في حالة مزرية، إذ أن الطرق عشوائية، والكهرباء متقطعة، والخدمات الأساسية ضعيفة، فلا يوجد مثلا نظام يعتد به للرعاية الصحية. وفي تلك الأيام، شعرت جافين، التي كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها، في بعض الأحيان بعدم قدرتها على الاحتمال، ما اضطرها للبحث عن الهدوء والعزلة المريحة في الفندق الذي تقيم به.

والآن، بفضل فيسبوك ومجموعات التواصل عبر الإنترنت، والمناسبات التي تدعو لها السفارة والغرفة التجارية المحلية، تمكنت جافين من بناء دائرة من الأصدقاء تضم وافدين وسكان من ميانمار على حد سواء. وبينما توجد مطاعم وحانات ونوادٍ معينة “لا ترى فيها إلا الوافدين”، تقول جافين إنها تمكنت بسهولة من بناء علاقات صداقة مع أشخاص محليين.

وأضافت في رسالة بالبريد الإلكتروني: “الناس هنا يتكلمون الإنجليزية جيدا، ويشعرون بالسعادة لمقابلة الأجانب. إذا كنت تستطيع التحدث قليلا باللغة البورمية وتبتسم للناس المحليين، فبإمكانك أن تقضي وقتا رائعا معهم، وتلعب كرة القدم بالطبع، فكثير من أصدقائي الذين لهم أصدقاء من بورما يمارسون الرياضة سويا.”

لماذا يعيش المغتربون في عزلة؟مصدر الصورةGETTY IMAGES
Image captionفي البلاد التي تكون فيها أعداد الأجانب كبيرة، مثل دبي، غالبا ما يختلط الوافدون اجتماعيا مع بعضهم البعض

الفروق الثقافية

وتقول جافين إن إدراك الفروق الثقافية أيضا أمر في غاية الأهمية. وعلى الأغلب، يقضي البورميون وقتهم في نهاية الأسبوع مع عائلاتهم، أو يذهبون إلى معبد البوذيين. وبينما يفضل الغربيون الذهاب إلى نادٍ ليلي والسهر حتى الفجر، يرغب البورميون في العودة إلى المنزل بحلول الساعة العاشرة مساء، ليستيقظوا مبكرا في اليوم التالي.

وتقول ماريان فان باكيل، أستاذ مساعد بقسم التسويق والإدارة بجامعة جنوب الدنمارك، في رسالة بالبريد الإلكتروني: “على سبيل المثال، في هولندا يوجد فصل كبير بين العمل والحياة الشخصية. رغم ذلك، يتوقع الكثير من الوافدين أن يقوم زملاؤهم في العمل بدعوتهم للعشاء أو لتناول مشروب، ومن ثم يشعرون بخيبة أمل عندما لا يحدث ذلك. إن معرفة كيفية التواصل الاجتماعي داخل ثقافة معينة يمكن أن تجنب الناس الشعور بخيبة الأمل.”

كما تقول الباحثة الهولندية إن هناك عوامل تؤثر في تكوين علاقات اجتماعية، مثل شخصية الفرد نفسه، وطريقة تعامله مع الآخرين، والمكان الذي يعمل ويعيش فيه.

وعندما وصلت للمرة الأولى إلى أمستردام قبل عشر سنوات، وجدت سيسيلي لايزيل أن العيش في الخارج كان بمثابة تحدٍ أكبر مما كانت تتوقع. فقد شعرت لايزيل، 39 عاما، بأن هولندا تتيح لها عملا بميزات أفضل مما هو متوفر في وطنها بريطانيا، لكنها شعرت بالوحدة وسط أجواء غير مألوفة لها. كما وجدت صعوبة في تلمس طريقها. وباسترجاع الماضي، تعترف أنها كانت ساذجة قليلا، وتقول: “كنت على وشك التخلي عن العمل والعودة إلى بريطانيا، وعدت إلى البلاد عدة مرات”.

كانت لايزيل تعمل في حانة أيرلندية، وهو المكان الذي صممت أن تعمل به لاعتقادها بأنه يرتبط بالوافدين، وهو نفسه العمل الذي مكنها أخيرا من الإستقرار. وتتذكر لايزيل ما حدث قائلة: “تبين لي أنه مكان رائع لمقابلة الناس، وغالبيتهم من الوافدين الذين يمرون بهولندا مرور الكرام، بالإضافة إلى قلة من الذين مضى على وجودهم هنا فترة من الزمن. حصلت على وظيفة من خلال أحدهم في مركز لخدمة العملاء، تابع لإحدى شركات الاتصالات، ومن ثم كاتبة للنسخة الانجليزية من مواد الشركة المطبوعة. استمر ذلك لمدة عامين، قررت خلالهما أنه يتعين علي البقاء مدة أطول. وعزز من ذلك تعلمي للغة الهولندية”.

وقد أصبحت لايزيل الآن تتحدث الهولندية بطلاقة، وتعمل كاتبة في مجال الأغذية، ومحررة ومترجمة باللغتين الانجليزية والهولندية.

لماذا يعيش المغتربون في عزلة؟مصدر الصورةGETTY IMAGES
Image captionجاءت كندا كأكثر مكان جاذب للوافدين في المسح الإحصائي الذي أجراه بنك “إتش إس بي سي” العام الماضي

إقامة علاقات

تعتبر لايزيل نموذجا لعدد كبير من الشباب الذين يتوجهون للخارج بحثا عن عمل، عادة بعقود محلية، وينتهي بهم الأمر إلى الإقامة بالخارج. لكن بالنسبة لوافدين آخرين، ربما لا يكون بناء علاقات صداقة مع المجتمع المحلي أمرا ضروريا. ومن الواضح أن الوافدين الآخرين هم في وضع أفضل لتقديم المشورة والنصيحة للوافدين الجدد، فيما يتعلق بالمدارس والسكن والتعامل مع خدمات البلدية.

ومن السهل مقابلة الوافدين الآخرين، سواء من خلال العمل أو مدارس الأبناء وحتى في الحدائق العامة والملاعب، علاوة على أن شبكة الإنترنت قد زادت من الفرص أمام الراغبين في مقابلة أناس من خارج جالياتهم.

يُذكر أن السكان الأصليين يشكلون 30 في المئة فقط من العاملين بمجموعة “إنترناشينز”، التي تعمل في 390 مدينة حول العالم. وشهد احتفال أقيم في الآونة الأخيرة بالعاصمة البريطانية لندن مشاركة أفراد من مئة جنسية أخرى إلى جانب البريطانيين.

ويقول مالتي زيك، المشارك في تأسيس إنترناشينز: “يرغب الناس في مقابلة الوافدين الآخرين الذين ربما تواجههم نفس المشاكل، وتسنى لهم التعامل معها. لكنهم أيضا يرغبون في مقابلة أشخاص من سكان الدولة، الذين يعرفون المدينة بشكل أفضل، ويريدون التعرف على ثقافتهم”.

وتصدرت كل من سنغافورة ونيوزيلاندا وكندا المسح الإحصائي الذي أجراه بنك “إتش إس بي سي” لعام 2016، للبلدان الأكثر جذبا للمغتربين. وأحد أسباب ذلك أنه من السهل الاندماج مع المجتمع المحلي لهذه البلاد الثلاث، حسب رأي الوافدين.

وجاءت كندا للسنة الثانية على التوالي كأكثر بلد جاذب للوافدين ومرحب بهم. وقال أكثر من ثلثي الوافدين هناك إنهم يندمجون بسهولة في الثقافة المحلية، مقارنة مع المتوسط العالمي البالغ 61 في المئة.

ويعد أحدث بحث أعدته الباحثة فان باكل بمثابة إقرار بأن السكان المحليين بإمكانهم عمل المزيد لجعل زملائهم الوافدين يشعرون بأنه مرحب بهم. وقد أطلقت على مشروعها عنوان “كسر الفقاعة التي يعيش فيها الوافد: التواصل مع الزملاء المحليين”، وهو مشروع صُمم لمساعدة الموظفين الأجانب في الجامعة التي تعمل بها على التواصل مع زملائهم المحليين.

وتقول: “لا يدرك كثيرون أن العديد من الوافدين يرغبون في التواصل معهم. هذا أمر طبيعي تماما، لأنك رغم كل شيء لديك حياتك ودائرة أصدقائك وعملك. عادة ما نرى أن الذين عاشوا في الخارج أكثر تقبلا للوافدين، لأنهم يعرفون كم من الصعب تواصل الوافد مع المجتمع المحلي. سيكون من الجيد لو أن الناس أدركوا أن دعوة الوافد ستكون لها قيمة كبيرة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى