الأخبار

واقعٌ في غرام الرئيس عباس

يجدر بالكثير أن يقعوا مثلي في غرام الرئيس محمود عباس. وأن ينحنوا له عندما يقابلوه، وأن يصلوا بين قدميه أربع ركعات. وذلك لسبب جدير بالاعتبار، مهم ومفصلي.

لا يتعلق هذا السبب بالفشل التام لسلطته، فذلك تحصيل حاصل، وهو النهاية الطبيعية لفلسفته السياسية القائمة على استمراء الخنوع. ولكنه يتعلق بالنقطة التي وصلت إليها الأحوال العامة بين الفلسطينيين. هذه النقطة تثير الشكوك في كل شيء، وتقترح المضي في طرق جديدة، وتتجاوز سطوة “الأبوات” البائدة، كما أنها تتحدى خياراتهم، وتختبر قدرتهم على تجسيدها، وتكتشف شعبا ظل مُغيّبا لوقت طويل.

وما لم تكن هذه ثورة قيد التحضير، فلن تعرف ما هي الثورة. والرئيس عباس يتمسك بسلطته، كما يتمسك الغريق بقشة، لأنه يخاف عواقبها، ولأنها تعتزم دفنه وهو حي، حيث لن يعتبره أحدٌ شهيدا لو أنه مات بحسرة ما صنع من فشل، أو بحسرة من اعتقل وعذّب وقتل.

أنظر من حولك، وسترى شعبا لم يعد يعتبر الرئيس “أبومازن” كائنا من الكائنات المقدسة لتطلعاته التحررية. إنه آخر العنقود الذي أصبح مُرّا. وهو آخر الأوهام. بدأ سلطته بأسماء ثانوية، لكي يسرج عليها تصوراته السلمية. وهي تقوم على استرضاء إسرائيل ومحاولة إقناعها بأن الذل الذي هو فيه، هو “الممثل الشرعي” لما وصل إليه الشعب الفلسطيني، وهو يستحق المكافأة “على أساس تطبيق مقررات الشرعية الدولية”.

إسرائيل هي أسرجت عليه. فاتسعت أعمال الاستيطان حتى كادت تلتهم كل شيء، وظلت تتعامل معه كرئيس بلدية، وتسخر من تصوراته السلمية، ورمت “مقررات الشرعية الدولية” في سلّة القمامة، كما كانت تفعل باستمرار.

فماذا كان رد الأخ “أبومازن” على ذلك؟ واصل استمراء الخنوع، معتقدا أنه يستطيع بذلك أن يُخرج من سلة المهملات ليس تلك المقررات وحدها، وإنما سلطته الغارقة بالوحل أيضا.

تبديد الوهم، كان هو النتيجة. الشعب الفلسطيني كان يرى السرج ويرى الوحل. وهذه هي الركعة الأولى.

عم الفساد في السلطة الفلسطينية، وظلت إسرائيل توفر لكبار موظفي الرئيس عباس الوسائل والتدابير لكي يثروا من عمليات صغيرة وكبيرة، حتى تمكنت من أن تنشئ “طبقة سياسية” و”طبقة رجال أعمال” تحيط بالرئيس “أبومازن”، لكي تزيد في إقناعه بما هو مقتنع به أصلا. وكلما ظهر من يشكل تهديدا أو صوتا آخر، تم نفيه وطرده بل وحتى تجريده من مواطنيته لو اتسع المقام.

هذه “الطبقة” لا تؤمن بشيء بمقدار ما تؤمن بـ“مقررات الشرعية الدولية”. وهذا هو حصنها الوحيد عن أن تكون طبقة بيض فاسد. لا شيء آخر. وإسرائيل لم تكن لتمانع في ذلك على الإطلاق. فهي تعرف أن ذلك الإيمان هو الشعرة التي تفصل بينهم وبين الخيانة العظمى، مما ينزع عنهم شرعية “التمثيل” (المراد له أن يكون تمثيلا على مسرح مهترئ). ولكنها تعرف أيضا أن “مقررات الشرعية الدولية” وُجدت لكي تُنسى، وهي قواعد وُضعت لكي تُخترق. وتلك هي “عملية السلام” من الأساس. أي أن “نتفاوض” عليها لا أن نقبل بها. و“أن نتفاوض عليها” هو المنهج الذي تبنته سلطة “أبومازن”؟

كم بقي من ذلك “الأبو” في معايير التحرر الوطني؟ إذا قلت “لا شيء”، فهذا نفسه كثير على “أبومازن”. ولكن سقطت بفضله “الأبوات” كلها، لتَبرزُ للفلسطينيين أسماؤهم.

بعض ما يتحرك في التاريخ اليومي يقدم مؤشرات للناظر المتفحص. وهي دلائل على منعطف حقيقي في رؤية الفلسطينيين لأنفسهم ولقضيتهم الوطنية. مروان البرغوثي، صار مروان البرغوثي فقط، وليس “أبوالقاسم”، ومحمد دحلان هو محمد دحلان وليس أبوفادي. وناصر القدوة هو ناصر القدوة، وليس أبوجرير. والمعنى من ذلك هو أن الفلسطينيين استعادوا أسماءهم بفضل ما جسدته “الأبو مازنية” من فشل.

وفي الواقع، فإن سقوط “الأبو”، هو سقوط مرحلة. وهذه هي الركعة الثانية.

في العام 2005 اُنتخب الرئيس عباس ليقود السلطة الفلسطينية لأنه “أبومازن”، ولكن عندما جاء الوقت ليعرض نفسه من جديد على الناخبين، هرب من الاستحقاق، ليس لأنه صار محمود عباس فحسب، بل لأنه لم يقدم شيئا يدل على أنه قاد شعبه خطوة واحدة إلى الأمام. وبمقياس ما كان قد تم نهبه من الأرض، فقد تراجعت حقوق شعبه إلى الوراء أكثر بكثير مما كان يمكن لأي حالم بالسلام ومؤمن بمقررات الشرعية الدولية أن يتوقع أو أن يتقبل.

الرئيس عباس ليس ممن يحبون التغيير. ولكنه يحصل. الانتخابات الرئاسية لعام 2005 كانت هي آخر انتخابات ينتخب فيها الفلسطينيون رئيسا لهم. وكانت الانتخابات التشريعية لعام 2006 هي آخر انتخابات ينتخبون فيها ممثليهم في المجلس التشريعي (البرلمان). الانقسام وغيره وفر الذرائع. ولكن مقومات التغيير كانت تغلي في القدور. وعندما تم التوصل إلى اتفاق في فبراير 2021 لإجراء انتخابات تشريعية جديدة ورئاسية من بعدها، برزت ظاهرة لم تكن بالحسبان، وهي أن عدد القوائم التي استعدت لدخول الانتخابات وصل إلى 36 قائمة.

القناعة التي ظلت تحكم تصورات حركتي “فتح” و“حماس” هي أنهما القوتان اللتان لا ثالث لهما في المجتمع الفلسطيني. بظهور كل تلك القوائم، سقطت هذه القناعة.

ما سقط، في الواقع، هو الثنائية. الفلسطينيون صاروا يبحثون عن أنفسهم خارجها. وهذه هي الركعة الثالثة.

معروفٌ ما تمثله حماس والفصائل التي تحيط بها. معروفٌ أيضا ما تمثله فتح الرسمية، أو “فتح محمود عباس”. ولكن أنظر فيما تمثله التيارات الأخرى ولسوف تكتشف حركية سياسية واجتماعية هائلة، تكاد تقترح كل شيء، من جميع الاتجاهات، وكأنها تريد أن تكتشف عالما سياسيا آخر جديدا بخيارات وبدائل لا حصر لها. وهي على رغم تنافر ما تقترحه، ليست متعادية، وتميل إلى التصالح مع غيرها، لأن كلا منها في الواقع متصالح مع نفسه. تجمعها القدرة على التنازل للآخر الفلسطيني، كما يجمعها الموقف الصلب نفسه حيال الاحتلال وحيال الموقف من عملية السلام.

التيار الذي يمثله دحلان لا يبدو قريبا من خيارات التيار الذي يمثله البرغوثي، ولا القدوة، وغيرهما من قادة التيارات الأخرى وممثلي المجتمع المدني، ولكن لا أحد وضع الآخر عدوا، ولا حتى نشأت بينهم خصومة.

السبب، هو أن الخروج من الثنائية سمح بالخروج من القوالب الجاهزة. أما وحدة الموقف من الاحتلال، فقد صارت المعيار المشترك لوطنية فلسطينية ناشئة: تقبل بالسلام، وترفض التفاوض على أسسه، وتمتلك البدائل.

وجود “وطنية فلسطينية”، تعرف ما تريد وترى الطريق إليه من دون أوهام ومن دون مواقف أيديولوجية ملتبسة، هو الركعة الرابعة.

حماس كتيار “فوق وطني”، قدمت شيئا واحدا على امتداد كل الفرصة التي أتيحت لها في غزة: الهدنة واللاحل. وظلت تتعثر بين خيارات السلاح وعجزه. أما “فتح-عباس” فقد قدمت فشلها، ليس في المضي بالمفاوضات إلى الأمام فحسب، ولكن في بناء مؤسسات تبرّر الدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، حتى لكأنها أرادت أن تثبت لنفسها وللعالم بأسره أنها مشروع مزيّف، لفكرة مزيفة.

ما كان من الممكن لكل هذا أن يحصل من دون الرئيس محمود عباس. فصلّوا بين قدميه. إذ أنجز بفشله أكثر بكثير مما كان يحلم أن ينجح به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى