مقالات

لولوة الحمود فنانة تقيم عند حدود هندسة الروح

يمكنك أن تفكر في شجرة موندريان حين ترى كل لوحة تنتمي إلى تيار التجريدية الهندسية. تلك الشجرة التي هي الخلاصة التوضيحية لتطور التجربة التجريدية بدءا من الطبيعة وانتهاء إلى خلاصاتها الجمالية.

لا تخفي الفنانة السعودية لولوة الحمود تأثرها بتلك التجربة بالرغم من أنها فضلت أن يكون عالمها أكثر تعقيدا بسبب رغبتها في الكشف عن الممرات التي تصل بين الفن والعلم.

تنظيم الإيقاع

“ترويض الروح” عنوان أحد معارضها، فيه ذهبت في الاتجاه الذي يوظف الرسم في خدمة الإيمان باعتباره نوعا من الموسيقى التي تدوزن الروح في سياق إيقاعها. إنها فكرة مستلهمة من الفنون الإسلامية وبالأخص فن الزخرفة الذي آمنت الحمود بإمكانية تحريره من قوانينه القديمة ليكون فنا معاصرا.

ليست الحمود فنانة قوالب حين يتعلق الأمر بالفنون الإسلامية وطرق تقديمها إلى العالم أو أساليب الاستفادة منها في خلق فن معاصر لا يخفي صلته بها. في الكثير من المناسبات من ذلك النوع نجحت الفنانة في أن تلفت الأنظار إلى مسألة نقدية وتاريخية هي في غاية الأهمية. تلك المسألة تتعلق بالصلة الجوهرية بين الإشراق الإسلامي والأسلوب التجريدي من جهة الدعوة إلى الصفاء الروحي.

كان التجريد فنّا مرحّبا به على مستوى الأحكام الدينية المتشددة. لا لأنه يناقض التشخيص، غير المحبب بالنسبة إلى البعض من الفقهاء، بل لأنه يرتقي بالتجربة الفنية إلى مستوى محاكاة خيال المخلوقات الذي يستعيد عالم الغيب.

التجريد هو فن الروح بكل تجلياتها. القلقة والمطمئنة، الثقيلة والخفيفة، المعذبة والسعيدة. وفي كل الأحوال فقد أنجزت الحمود أعمالا فنية مدهشة لا بسبب غرابتها بالنسبة إلى المتلقي غير المسلم، عربيا كان أم صينيا حسب بل وأيضا لأنها كانت قادرة على صناعة مزاج جمالي معاصر مختلف.

لوحات الحمود ليست تقليدا لأصل بعينه. حتى وإن وُجد ذلك الأصل فإن محاولة الفنانة ستعيد له الاعتبار وتضمه إلى الذاكرة البصرية للبشرية باعتباره لقية خالدة.

ولدت في مدينة الرياض عام 1967. درست علم الاجتماع في جامعة الملك سعود وتخرجت عام 1988. عام 1997 حصلت على بكالوريوس في التصميم الغرافيكي والسمعي البصري من الكلية الأميركية بلندن. ثم حصلت على الماجستير في تصميم الاتصال مع التركيز على الفن الإسلامي من كلية الفنون والتصميم بلندن عام 2000.

تعلّمت الحمود قواعد الخط العربي على يد فنان الخط الباكستاني رشيد بنت. كما تأثرت في أعمالها التي استلهمت جماليات الخط العربي بالفنان المصري أحمد مصطفى. قامت بدراسات عديدة حول تطور الخط العربي في القرن العاشر الميلادي.

الفن ليس هو الهدف

“ترويض الروح” مشروع تذهب فيه الحمود في الاتجاه الذي يوظف الرسم لخدمة الإيمان باعتباره نوعا من الموسيقى التي تدوزن الروح في سياق إيقاعها
“ترويض الروح” مشروع تذهب فيه الحمود في الاتجاه الذي يوظف الرسم لخدمة الإيمان باعتباره نوعا من الموسيقى التي تدوزن الروح في سياق إيقاعها

أقامت عام 2011 معرض “ترويض الروح” بلندن. وشاركت في العام نفسه في معرض “سوندرتاغور” بنيويورك. عام 2013 أقامت معرضها “اتنولوجي” في البحرين. ثم أقامت معرضا في دبي. في العام اللاحق أقيم لها معرض شخصي خاص بأعمال الخط في متحف الشارقة. بعد كل هذه المعارض ومشاركات عالمية كثيرة أقامت الفنانة معرضها الأول في السعودية بغاليري نايلا للفنون عام 2016.

إلى جانب ممارسة الرسم عُرفت الحمود باعتبارها ناشطة فنية ومنسقة تملك رؤية خاصة، حيث شاركت مع المتحف البريطاني في مشروع يهدف إلى نشر الثقافة العربية الإسلامية في المدارس البريطانية. عام 2008 أشرفت على أول عرض سعودي للفن المعاصر أقيم في غاليري بروناري بلندن، وعُرضت أعمالها في مزاد كريستيز بدبي، وبيعت في مزادات فنية أخرى.

الغموض البصري مصطلح على درجة كبيرة من الإثارة يشكل بعدا مهما من أبعاد عالم الحمود الفني، وهي من خلاله توزع أشكالها الافتراضية بين الوحدة والتعدد

هل هناك تناقض بين الإيمان والعلم وهو ما ينعكس على عالمها؟ الحمود لا تنطلق في تأملاتها من أفكار دينية محددة. فهي حين تعالج ديمومة الخلق فإنها تهتم بالأزل باعتباره مقياسا للوجود.

تقول “أنا اخترت فنّا يعبر عن إيماني وليس عن مشاعري. هناك فن وقتي يعبّر عن مشاعر وقتية وآخر أزلي يعبر عن ديمومة الخالق وعلاقة الروح بخالقها وبالكون عموما.
أكثر ما يثير حماسي لأنتج أعمالي هو القراءة والتأمل في الكون وقوانينه العلمية”.

تنطلق الفنانة بتأملاتها في اتجاه هندسة الكون التي اهتم بها العلماء وهي إذ تستدرج القوانين الرياضية إلى منطقة الإيمان فإنها تعبر عن رغبة في القبض على التفاصيل الغامضة التي تحاول أن تأسرها من خلال أشكال تتكرر فيتكرر إيحاؤها. وتحرص على أن يكون عالمها محايدا من خلال موقف فنها من الذات من جهة ومن جهة أخرى من العالم الخارجي، بالرغم من أن ذلك العالم لا يقف بين الاثنين كمنطقة تخلو من التعبير. فالتعبير في حد ذاته ليس هدفا خالصا من وجهة نظرها. لذلك فإنها تنسب فنها إلى الذات التي تكتفي بصلتها التأملية بالعالم الذي لا يحتاج إلى الرسم لكي يصفه.

تقول “هندسة الروح” وهي تقصد “هندسة الخيال”. روح المادة وخيالها العلمي. عن طريق الإيقاع البصري كما هو الحال لدى الهنغاري الفرنسي فيكتور فازارلي يمكن التشبث بفكرة الإلهام الذي ينطوي عليه التأمل. تلك عادة اكتسبها فازارلي من تأمل الفنون الإسلامية التي يسّرت عليه فكرة التخلي عن عادات الفنان الغربي وجعلته يتناغم مع وسيط بصري يبدو أكثر تماسكا من أن يضعف أمام العاطفة.

عالم الحمود لا يتسع لعاطفة يمكن أن تنحرف بالهندسة عن مسارها. بالنسبة إلى الفنانة فإن العاطفة تنحرف بالتأمل عن مساره. فخلاصة المشهد الطبيعي التي هي عبارة عن مجال حيوي تقوم العناصر الفنية فيه بتهذيب حضورها هي المطلوبة لكي ينتقل المتلقي إلى تأمل المشهد الكوني. الفن في حد ذاته ليس هو الهدف.

المقيمة بين الوحدة والتعدد

لوحات الحمود ليست تقليدا لأصل بعينه
لوحات الحمود ليست تقليدا لأصل بعينه

تقول الحمود “تعنى أعمالي بالغموض البصري وتتناول علاقتها بين الوحدة والتعدد. ابتكر طبقات من الإيقاع وهذه الطبقات ترمز إلى التداخل الأبدي بين المعرفة والإيمان والحب، وطالما استهوتني الهندسة كشكل مجرد يحرر اللغة الخفية للكون والخلق من خلال تجاوز مظهرها الخارجي، يستند منهجي على العلم والرياضيات مما يمكنني من فك أسرار في قاعدتها المتوارثة دون أن أكون سجينة لمشاعري ودون الاستجابة العاطفية للأحداث في حياتي اليومية”.

طبقات من الإيقاع. تلك فكرة يمكن تأملها والتفكير فيها بعمق. فليس السطح في أعمالها عبارة عن طبقات من الأصباغ والمواد المختلفة، بل هو طبقات يتخللها الهواء الذي يصنع أصواتا مختلفة. تأتلف وتتصادم، تنسجم وتتنافر ولكنها في الأخير تشيد بنية متكاملة يندفع بعضها في اتجاه البعض الآخر لتشكل وحدة عضوية تبدو كما لو أنها خرجت من العدم موحدة وليس في الإمكان توزيعها بين مساحات يضرب بعضها البعض الآخر.

الغموض البصري وهو مصطلح على درجة كبيرة من الإثارة يشكل بعدا مهمّا من أبعاد عالمها الفني وهي من خلاله توزع أشكالها الافتراضية بين الوحدة والتعدد. وليس مهمّا أن يحتفظ الشكل بوحدته، فهو أساساً لا ينطوي على تعبير أو عاطفة ما، ولكن التعدد ينبغي ألا يكون ضربا من التمرد المؤقت.

تميل الحمود إلى استقرار أشكالها الذي يقود بالضرورة إلى تهدئة فوضى العناصر في عالمها. ذلك مسعى يمكنه أن يشكل الخيط الخفي الذي يمتد بين أعمالها في مختلف مراحلها الفنية. لولوة الحمود فنانة يرعاها الفن العربي الإسلامي بترف وبذخ أبعاده.

عالم الحمود لا يتسع لعاطفة يمكن أن تنحرف بالهندسة عن مسارها
عالم الحمود لا يتسع لعاطفة يمكن أن تنحرف بالهندسة عن مسارها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى