محليات

صفية بن زقر الرسامة السعودية التي صارت ظاهرة

صفية بن زقر الرسامة السعودية التي صارت ظاهرة

 

صفية بن زقر تدرك أن البيئة التي رأتها في طريقها إلى الاندثار، لذلك اهتدت إلى التصوير، ليكون عينها الثالثة فركزت على أزياء المرأة ومقتنياتها الشخصية في مختلف أحوالها.
الأحد 2019/05/19
صفية بن زقر سعودية صنعت زمنها بإرادة قوية

كان التوثيق ذريعتها في اختيار الرسم شرط حياة. ولكن الموضوع لا يخلق رساما، وهو ما تنبهت إليه حين لجأت إلى دراسة الرسم أكاديميا لتتمكن من الحرفة التي أطلقت من خلالها خيال موهبتها.

عزمت منذ بداياتها على أن توثق البيئة التي احتضنت طفولتها بعد أن شعرت أن تلك البيئة في طريقها إلى الاندثار. فاهتدت إلى التصوير، ليكون عينها الثالثة. صورت مشاهد من البيئة وطقوس العادات والتقاليد الشعبية كما ركزت على أزياء المرأة ومقتنياتها الشخصية في مختلف أحوالها. ومن ثم رسمت كل شيء بطريقة تشي بقوة انتمائها إلى ما رسمته.

حكاية امرأة مكافحة

لوحات بن زقر تعقد علاقة وثيقة ما بين الرسم والمجتمع، حاملة أسرار الاثنين معاً في خلطة فريدة.
لوحات بن زقر تعقد علاقة وثيقة ما بين الرسم والمجتمع، حاملة أسرار الاثنين معاً في خلطة فريدة

كل ذلك يمكن المرور به سريعا لولا أن الأمر يتعلق بصفية بن زقر التي هي أول امرأة تمارس الرسم في المملكة العربية السعودية. وهي ممارسة تنطوي على حكاية كفاح في بيئة محافظة.

لقد أحدث ظهور بن زقر نهاية الستينات انقلابا عظيما في المفاهيم الثقافية السائدة. لقد اخترقت الفنانة حاجزين، لا يمكن تخيل اختراقهما في تلك المرحلة. حاجز الموقف الديني المتشدد من الرسم وبالأخص حين يكون تشخيصيا وحاجز الموقف الثقافي والاجتماعي من المرأة.

كانت بن زقر “امرأة رسامة”. صفتان لم يكن التعامل معهما مقبولا ثقافيا أو اجتماعيا. لذلك فإن النظر إلى ريادتها بقدر لافت من الإجلال لا يتعلق فقط بالقيمة الجمالية التي انطوت عليها أعمالها الفنية بل وأيضا بالمكانة التاريخية التي احتلتها وهي تؤسس بجرأة وشجاعة منقطعتي النظير لنوع من الحياة، ستصنع من خلاله نساء سعوديات بعدها عوالمهن التي تكشف عما كان مسكوتا عنه في ظل الهيمنة الذكورية المحروسة بسلطة رجال الدين التي لا ترى في المرأة كائنا ثقافيا.

وإذا ما تأملنا علاقة المرأة السعودية بالرسم فلا بد أن نعترف بأن الشجرة التي زرعتها صفية بن زقر قد أثمرت وقوي عودها.

هناك اليوم العشرات من الرسامات السعوديات اللواتي ينافسن الرجال في مستوى وعيهن الجمالي والفكري وقدرتهن على استلهام الأساليب الحديثة في رسم لوحاتهن ولا يزال  أثر تجربة بن زقر واضحا عليهن.

يمكن تفسير وجود ذلك الأثر من خلال العودة إلى التربية الفنية التي تعرضت لها الفنانة عبر مراحلها الدراسية وهو ما انعكس على أسلوبها الفني الفريد الذي تنقلت من خلاله بين مدارس أوروبية مختلفة.

صنعت زمنها بإرادة قوية

ظهور بن زقر نهاية الستينات لا يزال يصنّف كانقلاب عظيم في المفاهيم الثقافية السائدة. لقد اخترقت الفنانة حاجزين، لا يمكن تخيل اختراقهما في تلك المرحلة. حاجز الموقف الديني المتشدد من الرسم وبالأخص حين يكون تشخيصيا وحاجز الموقف الثقافي والاجتماعي من المرأة.
ظهور بن زقر نهاية الستينات لا يزال يصنّف كانقلاب عظيم في المفاهيم الثقافية السائدة. لقد اخترقت الفنانة حاجزين، لا يمكن تخيل اختراقهما في تلك المرحلة. حاجز الموقف الديني المتشدد من الرسم وبالأخص حين يكون تشخيصيا وحاجز الموقف الثقافي والاجتماعي من المرأة

بدأت بن زقر أكاديمية متشددة لتسترخي بعدها مع الانطباعية ثم لتكتشف ضالتها في رسوم الفرنسي بول سيزان، وهو أب الحداثة الفنية. وهو ما يكشف أن الفنانة وإن واجهت تحديا ثقافيا واجتماعيا محليا فإنها كانت تعمل على إغناء تجربتها بما تعلمته وما اطلعت عليه من التجارب العالمية.

واقعيا فإن الفنانة أرست تقليدا يقوم على التحول. فهي وإن بدأت بتشدد مدرسي فإن ذلك لم يمعنها من أن تستجيب لمزاج سيزاني انفتحت من خلاله على المدارس الفنية الحديثة.

تلك امرأة صنعت عبر خمسين سنة من الكدح تاريخا للرسم في بلد، يتطلع اليوم إلى الانفتاح فنيا على العالم.

ولدت عام 1940 في حارة الشام بجدة. وعاشت مع أهلها في القاهرة. بعدها غادرت إلى بريطانيا لتلتحق بمدرسة “فنشنك” حيث قضت هناك ثلاث سنوات.

وفي أواخر عام 1965 عادت إلى القاهرة لتتلقى دروسا خصوصية في الرسم. ثم أمضت عامين في كلية سان مارتن للفنون بلندن لتنال شهادة في فني الرسم والغرافيك. عام 1968 أقامت أول معرض شخصي وذلك في مدرسة دار التربية الحديثة بجدة. بعد ذلك المعرض انتقلت للعرض في الرياض والظهران والجبيل والمدينة المنورة كما أقامت بعد سنوات معارض في باريس وجنيف ولندن.

عام 1995 تم افتتاح دارة صفية بن زقر. بيت هو أشبه بمتحف يضم أعمال الفنانة في جميع مراحل تطورها الأسلوبي. في تلك الدارة يقع مرسم الفنانة ومكتبتها الخاصة كما تستقبل الدارة ورشات للرسم وتقيم ندوات متخصصة في شؤون الفن.

رسومها تغص بالحنين إلى زمن الطفولة
رسومها تغص بالحنين إلى زمن الطفولة

أصدرت الفنانة كتابين. الأول هو كتاب “المملكة العربية السعودية – نظرة فنانة إلى الماضي”، والثاني رحلة عقود ثلاثة مع التراث السعودي. وفي الكتابين سعت بن زقر إلى أن تقدم خلاصات لتجربتها الفنية وبالأخص على مستوى التعامل مع مفردات البيئة المحلية وسعيها إلى توثيق التراث الشعبي السعودي من خلال الرسم. وهي في ذلك المسعى إنما تمثل مرحلة مهمة من مراحل الفن الحديث في السعودية حيث كانت أعمالها بمثابة القاعدة التي مزجت تفاصيل البيئة بالنسيج الاجتماعي. وهو ما جعل من رسومها مرجعا لدراسة أحوال المجتمع السعودي وأساليب احتفائه بالحياة.

وإذا ما كانت رسومها تغص بالحنين إلى زمن الطفولة فإنها في الوقت نفسه أنهت فصلا ضروريا، عقدت من خلاله صلة قوية بين الرسم والمجتمع، في ظل ظروف تاريخية معقدة لم يكن المجتمع فيها في حالة قبول بالصنيع الفني الذي اقتصر يومها على الحلي ووسائل الزينة.

ولذلك يمكن القول إن بن زقر صنعت زمنها بإرادة المرأة التي تتطلع إلى المستقبل محتفلة بكل ما يحيط بها من عناصر الجمال.

كثر عدد الرسامات أثناء العقود الأخيرة. هناك اليوم رسامات سعوديات تفوق شهرتهن شهرة بن زقر. سيقال إن هناك رسامات يرسمن أفضل منها. وهو أمر خاضع للنقاش. غير أن كل ذلك لم يؤثر على المكانة الفنية والتاريخية التي تحتلها الفنانة. فهي وحدها من بين كل الفنانات السعوديات يمكن الإشارة إليها باعتبارها
ظاهرة.

ظاهرة ثقافية

الفنانة نجحت في إدخال مفردة الرسم النسوي في المجال الثقافي ولم يعد عمل المرأة الفني منحصرا في الأعمال اليدوية التقليدية.
الفنانة نجحت في إدخال مفردة الرسم النسوي في المجال الثقافي ولم يعد عمل المرأة الفني منحصرا في الأعمال اليدوية التقليدية

هي ظاهرة ثقافية. ذلك لأن الفنانة نجحت في إدخال مفردة الرسم النسوي في المجال الثقافي ولم يعد عمل المرأة الفني منحصرا في الأعمال اليدوية التقليدية. صارت لها كلمة في ما يتعلق بأحوال الثقافة الحديثة. وهي ظاهرة فنية. ذلك لأنها استطاعت عبر تجربتها الفنية التي تمتد لأكثر من خمسين عاما أن تقدم خبرتها في إطار تحولاتها بين المدارس الأسلوبية من غير أن يؤثر ذلك على وضوح شخصيتها.

رسمت بن زقر بوحي من تطلعها إلى أن تكون المرأة التي تصنع المعادلة. أن تكون ابنة البيئة السعودية وفي الوقت نفسه وريثة الفن العالمي بكل أساليبه. المرأة التي أدخلت الرسم من جهة نسوية إلى السعودية كانت في الوقت نفسه المنافسة التي كان على الرسامين الرجال أن ينظروا إليها بطريقة جادة. فهي لا تقيم وراء حجب الأعمال اليدوية التقليدية. لديها من المعرفة في أحوال الفن ما يؤهلها لمنافستهم. تلك هي الفنانة الظاهرة التي جسدتها صفية بن زقر.

تعود رسوم بن زقر إلى زمن هو غير زمننا. ذلك هو زمنها الثقافي. الزمن الذي كافحت الفنانة من أجل أن يكون ممكنا. شيء من ذلك الزمن سيظل خالدا وهو يشير إلى ما بذلته تلك الرسامة من جهود من أجل أن يكون الرسم مقبولا. تجربة الفنانة بن زقر إنما تمثل لحظة تحول في الوعي الاجتماعي. إنها الإشارة التي تقع خارج النص التاريخي. صفية بن زقر هي صانعة تاريخ مختلف. لقد انحرفت بالتاريخ لنملي عليه توقيتات زمنها. وهو زمن المرأة الرسامة المبشرة بالرسم وسيلة للخلاص هي التي فتحت الباب لأجيال من النساء لكي يدافعن عن اختلافهن عن طريق الرسم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى