الأخبار

روسيا توظّف التشتت الدولي في إدارة الأزمة الليبية

روسيا توظّف التشتت الدولي في إدارة الأزمة الليبية

موسكو تسارع خطوات الانفتاح على قوى متعددة وتقرر التقدم خطوة إلى الأمام على صعيد الأزمة الليبية.

عدّلت روسيا استراتيجيتها في ليبيا، فبالإضافة إلى دعمها للمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، تبذل موسكو جهدا كبيرا لاستقطاب حكومة طرابلس المدعومة من الأمم المتحدة، وغيرها من مراكز القوة والنفوذ في ليبيا، بما في ذلك الجماعات التي تسيطر على مدينة مصراتة، في غربي البلاد، كما كشفت مؤخرا عن ورقة جديدة في مسار تدخلها على خط الصراع في ليبيا، وهي ورقة سيف الإسلام القذافي.

 يؤكد تعامل روسيا مع الأزمة الليبية أنها قريبة وليست بعيدة كما يتصور كثيرون، أو على الأقل أن ليبيا محل اهتمام من قبل قادتها. والتردد الظاهر على تصوراتها يبدو مفهوما في سياق التعقيدات السياسية والعسكرية التي تمر بها ليبيا، وجعلت موسكو تتعمد جس النبض من خلال أدوات مختلفة، كي تتهيأ الفرصة لتنقض عليها، كما انقضت على الأزمة السورية في لحظة حاسمة، مستفيدة من الارتباكات التي خيمت على أدوار قوى إقليمية ودولية، جعلتها عاجزة عن مناطحة الدور الروسي.

كشف الإعلان عن زيارة مبعوث لسيف الإسلام القذافي إلى موسكو مؤخرا، وتسليمه رسالة للرئيس فلاديمير بوتين، أن روسيا بدأت تسارع خطوات الانفتاح على قوى متعددة، ولم تعد علاقتها قاصرة على المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، أو عقيلة صالح رئيس البرلمان في طبرق، ويمكن أن تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، طالما قررت التقدم خطوة للأمام على صعيد الأزمة الليبية.

اتسعت المروحة السياسية لموسكو، بكلام ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي، عندما قال، الاثنين، “ينبغي أن يلعب سيف الإسلام القذافي، دورا في المشهد السياسي الليبي”، وهو ما تزامن مع محاولات حثيثة تقوم بها دوائر محلية وخارجية تريد المساعدة في انخراطه داخل العملية السياسية مباشرة.

يظل سيف الإسلام القذافي ورقة رابحة في أيدي الكثيرين، ليس لأنه نجل معمر القذافي، وينتمي إلى قبيلة عريقة (القذاذفة) لها حضور ونفوذ كبيران في أماكن متباينة، لكنه عنوان لمرحلة كان يسعى فيها إلى تقديم توليفة مصطنعة لمشروع مبتكر للحكم، قبل إجهاضه من جانب مناوئين للفكرة، احتلوا مكانا بارزا في السلطة، حتى ذهبت بعيدا عن الجميع، غير أن مكونات المشروع لا تزال تحظى بجاذبية لدى بعض القوى النافذة في ليبيا.

يحمل التودد الدبلوماسي لسيف الإسلام القذافي، قدرا من البراغماتية، ولا يعني أن موسكو تضع بيضها في سلته وحده، أو القطع بأن فرصته مضمونة في الوصول إلى السلطة، لكن هي فكرة من بين مقاربات عدة تسعى روسيا إلى القبض عليها، لتكون رقما في معادلة صعبة، وربما يتم استدعاؤها للفصل بين قوى سياسية وأمنية متناحرة، كل منها يميل إلى جهة خارجية أو محسوب عليها، ولتجنب الدخول في صدام مع قوى غربية تقلق من موسكو، أو بمعنى أدق طمأنتها بأن روسيا سوف تسير على طريقها.

تتمنى روسيا توظيف التشتت الدولي في إدارة الأزمة الليبية، وإخفاق أو تعثر المبادرات الأممية والإقليمية والفرنسية والإيطالية، للإمساك بتلابيب الأمور، باعتبارها المنقذ من الفوضى الحالية، وتمثل صورتها في المنطقة، وفي ليبيا بشكل خاص، رمزا للتعاون البناء، وبعيدة عن الأفكار المتداولة بشأن تاريخ قوى استعمارية مثل فرنسا وإيطاليا، ومهيمنة كالولايات المتحدة، أو قوى تأمل في فرض سطوتها لتعميم أجندتها الأيديولوجية مثل تركيا وقطر.

تعرف موسكو أنها تملك مقومات كثيرة تساعدها على المزيد من الحركة الإيجابية، ما جعلها تحتفظ بمسافة عن المشير حفتر، وتنأى عن تصويرها في شكل الحليف للشخص الواحد على الساحة، لذلك بدأت توسع نطاق شبكة التعاون، وتصل بها إلى قوى متعددة، وهو دليل على رغبتها في القيام بدور مؤثر داخل ليبيا، بعد أو قبل أن تلملم جيوبها في سوريا.

تنطوي الإشارات الروسية الزاحفة نحو سيف الإسلام القذافي على معان سياسية تتجاوزه كشخص طموح، لكنها تصب في خانة أنه رمز لتوجه يضم أطيافا متباينة من القوى، في مقدمتها جزء معتبر من أنصار العقيد الراحل معمر القذافي، تراودهم أحلام العودة إلى السلطة، مستندين إلى التدهور الذي أعقب سقوطه بالقوة، وندم مجموعة كبيرة من المواطنين على الأيام الخوالي، وما تلاها من كوابيس أمنية واقتصادية، لا يوجد أفق قريب للخروج منها.

يرى الكثيرون في نجل القذافي أنه على وفاق تام مع شريحة كبيرة من المنتمين إلى التيار الإسلامي، وظهوره على الساحة مجددا يحيي، ولو رمزيا، فكرة الجمع بين النقيضين، أي قطاع مهم من أتباع النظام القديم وجماعة الإخوان ومن يلفون لفها.

سيف الإسلام القذافي ورقة تضيفها موسكو إلى قائمة رهاناتها المتعددةسيف الإسلام القذافي ورقة تضيفها موسكو إلى قائمة رهاناتها المتعددة

ظهرت ملامح الجمع بينهما حديثا في أماكن عدة مثل مؤتمر داكار في مايو الماضي، الذي كان شاهدا على عدم استبعاد التحالف بينهما، ما يمثل صيغة جيدة لقوى غربية تعمل على أن يكون للتيار الإسلامي وجود مؤثر في السلطة بالمنطقة، وتدرك أن هذا التيار ربما يتعرض لهزات عنيفة، إذا قرر المضي قدما في العملية السياسية والاستحواذ على الحكم بمفرده، في ظل وجود جهات إقليمية رافضة لمشاركته أصلا، وتقبل على مضض أن يكون جزءا في اللعبة وليس كل اللعبة.

يدعم هذا الاتجاه، أن جميع مغازلات الإخوان السياسية في ليبيا مع شخصيات مثل المشير حفتر أو عقيلة صالح، أو فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي، رئيس حكومة الوفاق، تكتيكية ولتجاوز بعض العقبات الآنية، ولا تدخل في باب التحالفات الاستراتيجية، التي تتمنى بعض القوى الوصول إليها مع قوة مدنية لفك شيفرة السلطة في ليبيا، بعد أن وصلت إلى طريق شبه مسدود، يصعب معه توقع الشخص الذي يمكن الالتفاف حوله وينجح في ملء الفراغ الراهن.

كلما جرى الاستفتاء شفويا على شخص، وجد عقبات كثيرة تمنع حسم تفوقه، وكلما مالت بورصة التوقعات إلى جهة يمكنها إحكام السيطرة على السلطة، ظهرت عوامل تقلل من قدرتها على تخطي التحديات المتناثرة في ربوع ليبيا.

توحي التصرفات التي تقوم بها موسكو أنها تريد تقديم رؤية سياسية أو عسكرية في ليبيا، لأن انفتاحها على قوى كثيرة يصب في صالح هذا المنهج، بالتالي فالحديث عن دور مستقبلي لسيف الإسلام القذافي، لا يعني تبنيه ودعمه في الوصول إلى الحكم، لأن فئة كبيرة من الليبيين تدرك تضاؤل فرصته أمام شخصيات أكثر حضورا، قد تكون وازنة بما يفوق مؤهلات نجل القذافي.

ناهيك أن الرجل يمكن أن يتسبب في إشعال المزيد من النار على الأزمة، وليس العكس، فلا يزال هناك ليبيون محتقنون ويكنون عداء سافرا لرموز النظام القديم، فما بالنا بأحد أبناء الحاكم السابق؟

كما أن التعامل مع أتباع القذافي ككتلة واحدة خطأ جسيم، فثمة تشتت وتشرذم وترهل أصاب هؤلاء، جعل بعضهم يتبنون مواقف أبعد ما تكون عن ثوابت العقيد الراحل، في ما يتعلق بالعلاقة مع تيار الإسلام السياسي والدول الداعمة، أو في النظر إلى الآليات السياسية لحل القضايا الدقيقة في البلاد، ووصل البعض إلى حد الانحياز إلى مصالحهم الشخصية، من دون مراعاة للمصالح الوطنية.

يرى ليبيون أن الإصرار على إعادة سيناريو سيف الإسلام القذافي ومحاولة تصديره كوجه توافقي من جانب بعض القوى الدولية، قد تكون نكبة كبيرة، لأنها تشعل الأزمة ولا تطفئها، وتفتح جراحا عميقة، ومن يروجون له، عن قصد أو من دونه، ربما يقودونه إلى التهلكة، لتعود الأزمة الليبية إلى اليوم التالي لمصرع القذافي، ومحاولة ترتيب الأوراق مرة أخرى منذ هذه اللحظة، التي أجهزت فيها قوات الناتو على النظام السابق ودمرت قدراته العسكرية، بمعنى خروج مراكز القوى التي تتمترس وراء السلطة أو الميليشيات حاليا.

ولذلك بدأت عملية الترويج لأسماء محسوبة على النظام السابق، مثل أبوزيد دردة رئيس جهاز الأمن الخارجي في عهد النظام السابق، والذي يستطيع العمل وفقا للمعالم التي رسمها مشروع سيف الإسلام القذافي، لكن كل ذلك يتوقف على توازنات القوى الدولية، والتي تتغير بين فينة وأخرى، لأن الأزمة لم تدخل بعد مرحلة الحسم التام، وضجيج التحركات والمبادرات والمؤتمرات هو دليل على استمرار الارتباكات وفقدان البوصلة، ما يمهد الأجواء لروسيا للتدخل في ليبيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى