أخبارعالمية

تفويت الفرصة على الميليشيات لجر الجيش الليبي إلى الحرب ووقف الانتخابات

الميليشيات تتحرك من أجل جر الجيش الليبي وخاصة قائده المشير خليفة حفتر إلى مواجهة ولو محدودة بهدف منع إجراء الانتخابات من ناحية، ومن ناحية أخرى لإظهاره في صورة المعرقل وإثارة غضب الدول الخارجية التي ترعى عملية التسوية السياسية. كما أن التصعيد من شأنه أن يخفف من الضغوط على تركيا من خلال مطالبتها بسحب قواتها والمرتزقة الذين جاءت بهم إلى ليبيا.

أخفقت الكثير من القوى الليبية المستفيدة من بقاء الأوضاع على ما هي عليه بعد تعثر ملتقى الحوار السياسي، ولجأت أمام ضغوط دولية كثيفة لإجراء الانتخابات في موعدها قبل نهاية العام إلى محاولة توريط الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في اشتباك مسلح مباشر جديد، والدخول في مرحلة من التسخين العسكري الذي هدأ منذ إعلان وقف إطلاق النار في أكتوبر الماضي، وهي الوسيلة التي يمكن أن تعيد الصراع إلى الواجهة وقد تطغى على غيرها من التحركات السياسية.

ونفذت ميليشيات تابعة لقوى مسلحة في طرابلس هجوما الأربعاء الماضي على عناصر من اللواء 128 بشمال منطقة سوكنة في الجفرة، بهدف جر القوة التابعة للجيش الوطني هناك إلى عملية خرق وقف إطلاق النار، والتي تعد هي الخطة “ب” لعدم الذهاب إلى الانتخابات المصيرية، فإذا أخفقت في عرقلتها من خلال تصورات ملتقى الحوار السياسي عليها أن تختلق الذرائع لعودة التصعيد العسكري إلى الساحة الليبية.

اختير زمان ومكان العملية الإرهابية بعناية، إذ سيقدم رئيس البعثة الأممية في ليبيا يان كوبيتش إحاطة وافية لمجلس الأمن حول التطورات بعد أيام أملا في الخروج بموقف صارم هذه المرة يحدد مسؤولية الأطراف المختلفة عن انسداد الأفق السياسي بشأن إجراء الانتخابات ما يعني أن ثمة إمكانية للحصول على قرارات تلوح بعقوبات ضد المتسبيين في هذا التأزم الذي يعرقل التسوية بعد أن قطعت شوطا الفترة الماضية، وأبدت قوى كبرى دعما سياسيا لها ظهر حتى الآن في شكل مبادرات وخطابات وتصريحات، ربما تليها ممارسات حقيقية أو لا.

من ناحية المكان تبدو الجفرة منطقة نفوذ لقائد الجيش الليبي، وحدوث اعتداء على قواته يوحي بأن الكتائب المسلحة قادرة على اختراق الخط الأحمر (سرت – الجفرة) والذهاب بعيدا في مواجهة المشير والتلويح بعدم استبعاد سقوط هذا الخط قريبا، بصورة تستفز الجيش الوطني وتفرط عليه الرد بقسوة، وبعدها يبدأ الحديث بكثافة حول عزم المشير حفتر القيام بتحرك عسكري جديد باتجاه طرابلس يعيد إلى ذاكرة الليبيين وغيرهم مرارات التحرك السابق وما أفضى إليه من خيبة وتعقيدات.

تكرار العمليات في منطقة الجفرة ينكأ جرح “فاغنر” أولا، حيث ينصب التركيز على دورها في تعطيل العملية السياسية

ومن حيث المكان أيضا، حاولت القوة الميليشياوية التي نفذت هجوم الجفرة ضرب المعاني التي تمثلها هذه المنطقة لقوات “فاغنر” الروسية، فحسب تقارير ليبية تتخذ هذه القوات منها مركزا أساسيا لها، وضرب الرمزية التي يحملها هذا الوجود يشير إلى سقوط بعض الأقنعة، ومن ثم وضع أصحابها تحت المجهر.

وينكأ تكرار العمليات في هذه المنطقة الحيوية جرح “فاغنر” أولا، وبدلا من تكثيف الضوء على جروح تركيا وألاعيبها في ليبيا ينصب التركيز على القوات الروسية ودورها غير المباشر في تعطيل العملية السياسية بذريعة أن وجودها يستفز الميليشيات التي يصعب السيطرة على تصرفاتها الأمنية أمام الآلة العسكرية لدى الطرف المقابل.

وقامت القوى الإسلامية بنشر شائعات متباينة الأيام الماضية جميعها تدور حول نية حفتر تكرار الزحف على طرابلس مرة أخرى، وأذاعت معلومات تفصيلية بشأن قيام تنظيمات إرهابية باستهداف ضباط تابعين للجيش الليبي في أماكن متفرقة، بغرض جره إلى كسر وقف إطلاق النار وتأليب القوى الدولية عليه، وتجاهل ملف الانتخابات وتهيئة الأجواء أمامها لينصب الاهتمام على الجيش الليبي والبحث في نوايا قائده.

وتستغل هذه الجهات ما يعرف عن المشير حفتر من نهم للسلطة ورغبة في الهيمنة العسكرية لتكرس صورة سلبية عنه تخيف الليبيين والقوى الغربية منه، ما يتسبب في تقويض حظوظه السياسية في المستقبل.

Thumbnail

وتيقنت العصابات المسلحة أن نجاح العملية السياسية الراهنة والوصول إلى الانتخابات يعني البدء في تصفية ظاهرة التدخلات التركية وما صاحبها من نشر أعداد كبيرة من المرتزقة والتخلص من الميليشيات التي تضخمت بشكل يمثل صعوبة في القضاء عليها، وهو ما يفضي إلى خسارة للقوى السياسية التي تستمد نفوذها من سلاحها.

ويقول متابعون إن ضبط مفاصل التسوية والشروع في تنفيذ خطوطها العريضة أول مسمار سيتم وضعه في نعش القوات التركية، لذلك تقف أنقرة وراء رفع حرارة الأرض تحت أقدام الجيش الليبي وجره إلى منازلة عسكرية سريعة تمنحها مشروعية في الوجود للدفاع عن حكومة الوحدة الوطنية التي تبدو مستهدفة من المشير حفتر.

ويفسر هذا الاتجاه أحد عوامل إصرار تركيا على البقاء في ليبيا وضربها عرض الحائط بالنداءات الدولية لوقف التدخلات الخارجية والتأكيد أنها لا تعد ضمن القوات الأجنبية أو أنها أتت لتبقى سنوات طويلة، ما أحدث خلافا داخل السلطة التنفيذية في طرابلس وقسّمها مبكرا بين من مع أنقرة ومن ضدها، وهو مسار يضاف إلى حزمة مسارات لا تعمل لصالح حل الأزمة.

ويعد الإصرار على توريط حفتر في مواجهة حاسمة من الخيارات المهمة التي تحقق مكاسب لتركيا ومن يدورون في فلكها سياسيا وعسكريا واقتصاديا، فتزايد المطالبات الدولية بخروج جميع القوات الأجنبية بدون استثناء يمثل ضغطا عليها ويحرج كل من يصمتون على وجودها أو يشجعونه.

الإصرار على توريط حفتر في مواجهة حاسمة يعد من الخيارات المهمة التي تحقق مكاسب لتركيا ومن يدورون في فلكها

إذا نجحت الميليشيات في إنهاء حلقة الضبط التي بات عليها حفتر وجره لخرق وقف إطلاق النار بشكل كبير، فذلك يؤدي إلى ضرب مجموعة من العصافير بحجر واحد، أبرزها تثبيت تهمة أنه لا يجيد سوى الحرب وخسارتها، وبالتالي يمكن أن يرفض القبول باللعبة السياسية وضوابطها الدولية، ما يقود إلى تسهيل عملية خروجه من المشاركة في الانتخابات كمرشح رئاسي محتمل، وتوفير المبررات الداعمة لوقف عملية تجفيف منابع الميليشيات، ناهيك عن بقاء حكومة عبدالحميد الدبيبة بحكم الأمر الواقع.

مشكلة هذا الطريق أنه يلغي سيناريو التسوية على أساس وحدة الدولة الليبية ويفتح الباب لخيارات الفصل بين الأقاليم الثلاثة، لأن التوجهات الدولية غير الصارمة تنطوي على عدم رفض لهذا الخيار، فأبسط أنواع التفاهم المتعلقة بالقاعدة الدستورية لإجراء الانتخابات لم يتم التوافق حولها، وإقرار ميزانية الحكومة من مجلس النواب ما زالت محل أخذ ورد ومرجح أن تفشل، وتوحيد المؤسسة العسكرية يمر بانتكاسة.

كل هذه المعطيات يمكن التغلب عليها بمزيد من الضغوط على الفاعلين فيها، لكن عودة الحرب هذه المرة ستعني ضرب التسوية في العمق، والأطراف المؤثرة في غرب ليبيا خبرت اللعبة جيدا، والقوى المهيمنة في الشرق لن تتحمل انتكاسة عسكرية ثانية، الأمر الذي يجب أن يدفع القوى الوطنية في ليبيا والمجتمع الدولي إلى عدم السماح بعودة الاشتباكات بأي ثمن.

لذلك سوف يحمل جر حفتر إلى هذه الحرب أو سعيه لها ثمنا باهظا تقع تكاليفه على الجميع، لأن تقسيم البلاد سيمر على جثث الكثير من الليبيين، ويرخي بظلاله السلبية على مصالح قوى كبرى رأت عدم استبعاده من البداية، لأن التقسيم هذه المرة ستشارك فيه قوى إقليمية ودولية كانت غائبة في العقود الماضية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى