اقتصاد

تشوهات عميقة تصيب اقتصاد قطر استنزاف الاحتياطيات وإفلاس شركات

تشوهات عميقة تصيب اقتصاد قطر .. استنزاف الاحتياطيات وإفلاس شركات

في تاريخ قطر الاقتصادي لحظتان فارقتان، الأولى اكتشاف حقل غاز الشمال عام 1971، وما تابعه من اكتشافات في هذا المجال، احتلت قطر بمقتضاها المرتبة الثالثة عالميا من حيث الاحتياطي، إذ يعد الغاز الجسر الذي ربط بين تلك الإمارة الصغيرة والعالم الخارجي، وأتاح لها أرصدة مالية بمئات المليارات، استخدمت في مجالات استثمارية اقتصادية وسياسية عدة، على أمل وضع الإمارة الصغيرة على خريطة القوة الإقليمية.
اللحظة الثانية والفارقة أيضا في تاريخ قطر الاقتصادي، تعود إلى أيام قليلة ماضية، وهي لحظة المقاطعة التي فرضتها دول خليجية بينها السعودية ودول عربية وإسلامية على قطر.
فالقرار لا يمثل فقط عملية قطع بين القوى الفاعلة في الإقليم والدوحة، وإنما للقرار الخليجي تداعيات اقتصادية عميقة لم ينكرها المسؤولون في الدوحة، وإن سعوا إلى التخفيف منها أو الإيهام لأنصارهم بأنهم قادرون على التصدي لها وتجاوزها.
ولا يمثل الحظر سدا لأحد أهم الجسور التي تعبر بها قطر إلى العالم أو يعبر العالم إليها، فالإقليم وأيا كان حجم علاقتك التجارية والاقتصادية معه، والتي تدعي الأرقام القطرية الآن زورا وبهتانا أنها علاقات هزيلة، يمثل الغلاف الحيوي لك، ومجال التمدد الطبيعي لنشاطك السياسي والاقتصادي، والأفق الذي تسعى لأن تحتل فيه موقعا مميزا، فإذا أغلق الإقليم أفقه أمامك، فإن ثرواتك المالية لن تكون في أفضل تقدير غير مجموعة من أوراق البنكنوت، غير قادرة على أن تجعل منك نموذجا سياسيا أو اقتصاديا يحتذى أو ينظر إليه بعين التقدير والاعتبار.
ومع هذا فإن خطورة العقوبات الخليجية على إمارة قطر تتمثل في أنها لحظة استراتيجية فارقة تضاهي في قوتها اكتشاف الغاز في تلك الإمارة الواقعة على شاطئ الخليج العربي، فالمؤكد أن قطر الآن ما بعد الحظر وليس فقط اقتصادها لن تكون قطر ما قبل الحظر.
وهنا قال لـ”الاقتصادية” الدكتور جون ويسكر؛ أستاذ الاستراتيجية الدولية، إن الوضع اختلف الآن وكان صادما ومفاجئا لقطر، فالأمر تجاوز الدبلوماسية والسياسة إلى ملعب جديد لم تكن قطر مستعدة له، ولا يمكنها التعامل معه لفترة طويلة نظرا لبنيتها الداخلية، وأعني هنا المقاطعة الاقتصادية التي فرضتها دول خليجية وعربية وإسلامية على الدوحة.
وأضاف، أن قطر ربما تكون لديها القدرة على المناورة الدبلوماسية، ولكنها لا تمتلك القدرة على القيام بذلك اقتصاديا، والسعي للبحث عن حلول للتغلب على الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها، وستكون جميعها وقتية ومكلفة للغاية وغير طبيعية ولا تنسجم مع قواعد علم الاقتصاد والربحية، وستستنزف الجزء الأكبر من احتياطيات الدوحة المالية واستثماراتها الدولية.
من ناحيته، يرى الباحث الاقتصادي؛ كلارك كوكس، أن التأثير الاقتصادي السلبي للعقوبات الخليجية، يبدو واضحا في محاولة ترويج الدبلوماسية القطرية عبر وزير الخارجية ووسائل إعلام مدعومة من قطر لمصطلح “الحصار”، مدعيا تعرض قطر لحصار غير قانوني من قبل أشقائها الخليجيين، لكن تلك المساعي القطرية باءت بالفشل حتى الآن، فالموانئ القطرية الجوية والبحرية تعمل دون أن يتعرض لها احد، كما أن تصوير العقوبات على أنها ترمي “لتجويع” الشعب القطري تصور هزيل ومحدود للغاية، ولا يتفق مع هدف الحظر، فالعقوبات يمكنها أن تترك تأثيرات أكثر خطورة وضررا بالاقتصاد القطري على الأمد الطويل، من قضية “تجويع” القطريين.
وأضاف لـ”الاقتصادية” “يلاحظ أن الخسائر التي منيت بها البورصة القطرية، تعد من أبرز الأضرار التي أصابت البنية الاقتصادية القطرية حتى الآن، فالتراجع شبه اليومي والكبير في قيمة أسهم الشركات القطرية، سيكون له تأثير ملموس في قدرة تلك الشركات على المنافسة في الأسواق، بل يتوقع أن يؤدي تواصل الخسائر إلى تخلص المستثمرين المحليين، من حصتهم من تلك الأسهم، وهو ما يجعلني أتوقع أن تعلن بعض تلك الشركات إفلاسها قريبا، إذا لم تتدخل الحكومة القطرية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لإنقاذها”.
ويضيف ” إذا كان الواقع يشير إلى أن عديدا من البورصات الدولية، قد تواجه مثل هذا الأمر من حين إلى آخر، إلا أننا نلاحظ أن بورصة الدوحة فشلت حتى الآن في القيام بعملية تصحيح تلقائي، فانخفاض قيمة الأسهم في الظروف الطبيعية يعد في الأغلب عنصر جذب لعديد من المستثمرين الأجانب أو الإقليميين أو المحليين، ولكن هذا لم يحدث بالنسبة لبورصة قطر، فإذا كان كبار المستثمرين الإقليميين من السعودية أو الإمارات قد أحجموا عن الاستثمار بسبب التزامهم بالعقوبات المفروضة بشكل رسمي، فإن غياب المستثمر الكويتي على سبيل المثال يكشف عن دعم قوي من دوائر الرأسمالية الخليجية للنهج السعودي والإماراتي والبحريني على قطر”.
ويضيف ” لكن الأكثر خطورة في المشهد الراهن وما يجب أن يقلق السلطات القطرية هو عدم انتهاز المستثمر الدولي أو حتى المحلي وأعني القطري فرصة انخفاض قيمة الأسهم في البورصة، للقيام بعملية شراء واسعة النطاق لتحقيق أرباح كبيرة مستقبلا، عندما تستعيد تلك الأسهم عافيتها، وتفسير ذلك إدراك المستثمرين الدوليين والمحليين أن تأثير العقوبات سيكون شديد الوطأة على الاقتصاد القطري في المستقبل، وأنه كلما طالت فترة الحظر المفروض، فإن تشوهات عميقة ستصيب البنية الاقتصادية لمجتمع في طور النمو، وبعض تلك التشوهات قد يتطلب التغلب عليها سنوات طويلة، ومن ثم فإن استعادة أسهم تلك الشركات لعافيتها قد يكون مشكوكا فيه”.
من جهته، تعتقد الدكتورة كارولين ديكر؛ أن الخطر الأكبر الذي أصيب به الاقتصاد القطري نتيجة المقاطعة العربية يعود إلى فقدان الاقتصاد الدولي الثقة بقطر ليس كمنظومة اقتصادية فحسب، وإنما كدولة قادرة على التعايش بشكل مستقر مع محيطها الإقليمي، وهو ما يعرض الاستثمارات الدولية فيها لضغط شديد وعدم استقرار ويرفع من تكلفة الفاتورة الاستثمارية غير المباشرة للمستثمرين الأجانب، نتيجة سعي المستثمرين الدائم للحفاظ على علاقة توازن بين استثماراتهم في الدوحة واستثماراتهم في الإقليم.
وتشير الدكتورة كارولين لـ”الاقتصادية” إلى أن غياب الإقبال الاستثماري على أسهم البورصة القطرية مؤشر خطير على تراجع الثقة بمدى الاستقرار في قطر، حتى من رؤوس المال المحلية سواء كانت لمواطنين أو مغتربين.
وتؤكد أن ذلك سيكون له عديد من التبعات لا تتعلق فقط بالاستثمارات الدولية التي تراقب المشهد عن كثب، فإن لم تفلح قطر في رأب الصدع سريعا وحل الأزمة الراهنة بشكل جذري، فإنه يصعب تصور أن تلك الاستثمارات ستواصل نشاطها في قطر، فالتضحية بعلاقاتها مع أسواق أكثر ثراء وكثافة سكانية مثل السعودية والإمارات، للحفاظ بعلاقتها مع الدوحة أمر لا يستقيم وفقا للمعايير الاقتصادية، موضحة أن المشهد الراهن ينبئ بتطورات خطيرة فيما يتعلق باستثمارات قطر الدولية وتحديدا في المملكة المتحدة.
وتضيف” فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي بين قطر وبريطانيا فإنه لا يمكن فصل السياسي عن الاقتصادي كثيرا، فقطر تستثمر حاليا نحو 30 مليار جنيه استرليني في الاقتصاد البريطاني، وتعهدت قبل أشهر قليلة من فرض الحظر عليها بأنها ستستثمر خمس مليارات جنيه استرليني في مجالات عدة في بريطانيا، لتنتهز بذلك فرصة الضائقة الاقتصادية التي يتوقع أن تعانيها المملكة المتحدة جراء الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي، وليس في ذلك غضاضة أو عيب، فانتهاز الفرصة الاستثمارية الملائمة، عرف طبيعي وسائد في الأنشطة الاستثمارية، ولكن قطر تسعى من تلك الاستثمارات إلى تحقيق مكاسب سياسية، ومع هذا فشلت فشلا ذريعا”.
وتتابع” فوزير خارجية قطر التقى نظيره البريطاني بوريس جونسون أخيرا، لكن يلاحظ أنه صدم مما سمعه، فقد طلبت منه الخارجية البريطانية القيام بالمزيد للتصدي لدعم الجماعات المتطرفة، والتعامل بجدية مع مخاوف جيرانها من دعمها للجماعات المتطرفة، بل لم يطالب الوزير البريطاني برفع الحظر الخليجي على قطر، بل دعا إلى تخفيفه، والأهم أنه لم يعقد مؤتمرا صحافيا مع نظيره القطري، وهذا يعني أن المراهنة القطرية على أن استثماراتها الاقتصادية في بريطانيا يمكن أن تساعدها على الحصول على مواقف داعمة لها في ظل تورطها في تمويل وإيواء تنظيمات وقادة إرهابيين لم تجد نفعا، وهذا كله يجعل عديدا من الاقتصاديين على قناعة تامة بأن الضائقة الاقتصادية للدوحة ستجعلها تقوم بتصفية عديد من استثماراتها في المملكة المتحدة خلال الفترة المقبلة”.
وتلفت إلى أنه على الرغم من التعبئة الإعلامية التي تقوم بها الدوحة لإثبات قدرتها على مواجهة العقوبات الاقتصادية، والعمل على خداع الرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي، بجمع الصحافيين الذين يغطون الأوضاع الاقتصادية في قطر في توقيتات محددة، لزيارة ميناء حمد لإظهار أن الميناء يعمل على قدم وساق، إلا أن أغلب وسائل الإعلام بمجرد مغادرتها العاصمة القطرية، فإن مراسليها يبثون ويكتبون تقارير صحافية عن وضع اقتصادي مزر، وهو ما رصدته قنوات تلفزيونية بريطانية، والتي أشارت إلى أن الزائر للدوحة يلمس منذ لحظة وصوله إلى مطار حمد الدولي أن الأمور ليست على ما يرام، وأن الأزمة تلقي بظلال قاتمة على الوضع، على الرغم من تأكيد المسؤولين القطريين عكس ذلك، فحركة المطار في تراجع بشكل ملحوظ، والطائرات فارغة، كما أفاد هؤلاء المراسلين.
وتبين أن البعض يعتقد أن سياسة الدوحة منذ اندلاع الأزمة القائمة على المكابرة بشأن عدم تأثير المقاطعة فيها، تتنافى مع حديث رجال أعمال ومستثمرين عرب في الدوحة مع المراسلين الصحافيين سرا بأن وقف الاستيراد عبر المعابر البرية مع السعودية والبحرية مع ميناء “جبل علي” في دبي سيؤدي إلى خسائر فادحة، خاصة في ما يتعلق بالمواد الأولية التي تدخل في المشاريع العقارية الضخمة، نتيجة التكلفة العالية التي سيتكبدونها عبر اللجوء إلى البدائل المطروحة حالياً من بعض الدول الأخرى.
وتشير إلى أن هذا كله يكشف أن الادعاءات القطرية بصلابتها الاقتصادية ليس لها أساس في الواقع، وأن الأمر لا يتعدى الأبواق الإعلامية لقطر، التي قد تفلح في تجميل الصورة لبعض الوقت ليس أكثر، وإنما لن تفلح في تغيير حقيقة الواقع الاقتصادي المتراجع لإمارة قطر طوال الوقت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى