أخبارعالمية

تاريخ استطلاعات الرأي لا يحسم جدية تأثيرها على الناخبين

يمنع القانون التونسي نشر نتائج استطلاعات الرأي والتعليق عليها في فترة الانتخابات، بهدف منعها من التأثير على آراء

الناخبين، لكن هذا الهدف يفقد جدواه مع انتشار النتائج على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى أن تجارب الدول الديمقراطية على مدى سنين طويلة أثبتت أن التفاعل معقد بين الاستطلاعات والناخبين ومتداخل الأبعاد وغامض التأثير.

من مشاهد الكرتون المضحكة أن نرى بعض أبطاله يستميت في خلع باب لدخول مكان بلا جدران أو للخروج منه. تذكرنا تلك الصورة بالاستطلاعات التي يُحكِم القانون غلق أبواب الاطلاع عليها في وسائل الإعلام في حين أن لا جدران للشبكات الاجتماعية التي نشر عدد من مستخدميها الاستطلاع الذي أنجزته سيغما كونساي يومي 7 و8 أغسطس عن الانتخابات الرئاسية التونسية.

والقانون التونسي الذي يمنع نشر نتائج الاستطلاعات والتعليق عليها في فترة الانتخابات قانون يكاد يكون فريدا إذ لا يشبهه إلا قانون البرتغال، التي ادعى بعض النواب أنهم قلدوا دستورها، في حين أن الدول الديمقراطية لا تمنع ذلك إلاّ أياما قليلة قبل الاقتراع تتراوح بين ثلاثة في فرنسا مثلا وأسبوع في ألمانيا.

صحيح أن تلك الفترات كانت أطول في البلدان التي دأبت على استخدام الاستطلاعات ثم اختُصِرت الآجال بعد عقود أدرك فيها المعنيون بالاستطلاعات أنّ التعرض إلى نتائجها في الإعلام لا يؤثر في الناخبين تأثيرا مباشرا وعميقا بل هو تفاعل معقد بين الاستطلاعات والناخبين ومتداخل الأبعاد وغامض التأثير.

الإيماء بين الصحافي والسياسي

القانون يحظر نشر استطلاعات الرأيالقانون يحظر نشر استطلاعات الرأي

لقد أظهر استطلاع سيغما المذكور أعلاه أن ثلاثة مرشحين، أولهم التحق مؤخرا بالسباق وثانيهم تصدر الاستطلاعات فجأة في مارس وثالثهم سبق المنصف المرزوقي في استطلاعات سبتمبر 2013، يأتون على رأس القائمة في نوايا التصويت بنسب مريحة مقارنة بالرابع إذ تفصل نقطة واحدة بين الأول والثاني ونقطتان بين الثاني والثالث في حين أن أربع نقاط ونصف النقطة تفصل بين الثالث والرابع.

وطالما كان إنجاز الاستطلاعات دون نشرها متاحا فلا أحد يقدر على منع الصحافي ولا السياسي من استخدامها في الحوارات مواربة بسبل لا يقدر عليها القانون.

فإذا كانا يعلمان نتائج الاستطلاع، وهما يعلمانها قطعا، فلن يكون سؤال الصحافي ولا جواب السياسي، في برنامج حواري عن حظوظ المرشحين، منفصلين عن تلك النتائج التي يعلمها كذلك غيرهما من الصحافيين والسياسيين ولا يجهلها إلاّ المواطنون الذين لم يصادفهم الاستطلاع على فيسبوك.

وتصبح الحوارات على ذلك النحو حوارات في جزء منها بالهمس والإشارة والإيماء بين الصحافي والسياسي اللذين يتحاوران انطلاقا من خلفية يعلمانها حتى يجد الصحافي نفسه في موقع أدنى من السياسي الذي يعلم عن استطلاعات أخرى يجهلها الصحافي لأن عددا كبيرا منها تطلبها أحزاب سياسية وهيئات أخرى لا تنشر ولا تسرب.

إن في تلك الممارسة المتمثلة في إتاحة معلومات الاستطلاعات للبعض وحجبها عن العدد الأكبر إساءة إلى النقاش العام في شأن الانتخابات. وصحيح أن هناك جدلا حادا في جدوى الاستطلاعات في الإسهام في النقاش العام لأسباب متعددة، منها أن صانعي الاستطلاعات يضعون للصحافيين أجندة النقاش باختيار أسئلة الاستمارة وعرض أجوبتها، غير أن المنطـق يقتضـي عندئذ حجـب الاستطلاعـات عن الجميـع.

إجراء استطلاعات الرأي دون نشرها يفتح الأبواب لتداولها خفية ثم تزويرها وتتعقد الأمور عندما تكون الاستطلاعات متعددة

وفي الحجب بمعنى تحجير إجراء الاستطلاعات فائدة. فالسماح بإجرائها دون نشرها يفتح الأبواب لتداولها خفية ثم تزويرها لغايات معلومة وتتعقد الأمور عندما تكون الاستطلاعات متعددة فيُزوّر الأصل والمُزوَّر فيحصل ما كان يخشاه المشرع، بل أسوأ، أي الخوف من تأثر الناخب بالاستطلاعات في الفترة الانتخابية.

ويتصل منع نشر الاستطلاعات عندنا في الفترة الانتخابية بالخوف من توظيفها لصالح عمرو أو ضد زيد بالتأثير في الناخبين انطلاقا من فرضية، لم تثبتها التجارب ولا البحوث، يرى معتنقوها أن ورود اسم عمرو في المرتبة الأولى في الاستطلاعات سيجمع الناس حوله وأن ورود اسم زيد متأخرا سيجعلهم ينفضون من حوله. فهل نفهم في الاستطلاعات وفي تأثيرها أكثر ممن صنعوها وجربوها عقودا؟ لماذا نمنعها شهورا ويمنعونها أياما بل ساعات؟

يمكن أن نفهم بالاستدلال أن أثر الاستطلاعات في الناخبين مختلف عما يراه البعض. ففي الحالات التي تأتي فيها نتائج الاقتراع قريبة من نتائج الاستطلاعات أو مطابقة لها يكون المعنى أن الناخبين ثبتوا على مواقفهم ولم يتأثروا بالاستطلاعات اليومية، كما هو معمول به في معظم البلدان. فبعض الاستطلاعات تعطي أوفر الحظوظ لعمرو على امتداد أيام قبل الاقتراع بل أسابيع دون أن يزيد ذلك في نسبة نوايا التصويت له.

أمّا في حالات الاختلاف بين نوايا التصويت في الاستطلاعات ونتائج الاقتراع فيكون المعنى كذلك أن الناخبين لم يتأثروا بالاستطلاعات بدليل أنهم صوتوا تصويتا مختلفا عن
النوايا.

وقد حدث ذلك في الانتخابات الأميركية 2016 وفي البريكست وفي فرنسا مرارا وقبلها بعقود عندما فاز هاري ترومان بالرئاسة الأميركية عام 1948 على منافسه ديوي. كانت الاستطلاعات تمنح ترومان 36 بالمئة من النوايا حتى أن شيكاغو تريبيون نشرت مساء الثالث من نوفمبر 1948، غداة الانتخابات، عنوانا يقول “ديوي يهزم ترومان”.

التلاعب بالاستطلاعات

Thumbnail

ستبقى الاستطلاعات ملازمة للانتخابات رغم كل ما يقال عنها لسببين، أولهما أن الحكام إلاّ قليلهم، مثل بوش الأب، يستخدمونها للاطلاع على اتجاهات الرأي العام (80 بالمئة منها لا تُنشر في الولايات المتحدة وكذلك في فرنسا) وآخرهما أنها تحظى بتأييد شعبي يسميه الخبراء “بالتأصيل الاجتماعي”. وذلك سلاح صانعي الاستطلاعات الذين يردون على خصومهم بالقول إننا نجري استطلاعات لنطلب من الناس إن كانوا مستعدين للتخلي عنها فيكون الجواب بالرفض.

وإبقاء الاستطلاعات جارية حتى قبل يومين من الاقتراع في بعض البلدان جاء أساسا لإدراكها أن التلاعب بالاستطلاعات سواء أكان مقصودا أم عفويا هو نفسه قبل الاقتراع بشهور أو بأيام وأن تأثير الاستطلاعات في الناخبين رغم غموضه لا يختلف كثيرا من فترة إلى أخرى.

وقد جاء المنع قبل أيام قليلة تحسبا لتأثير ممكن وقتئذ بناء على افتراض أن أكثر الناخبين يحسمون تصويتهم في الأيام الأخيرة التي تسبق الاقتراع فيُخشى أن يتأثر المترددون بذلك.

لقد فسرت العلوم الاجتماعية، وعلى رأسها علم النفس الاجتماعي، مستويات متعددة يتعامل فيها الناخبون مع نتائج الاستطلاعات منها ما يسمى بأثر “الاختيار الحر” وهو تصرف يرفض فيه صاحبه ما يأتي في الاستطلاعات تعبيرا عن أنه يقرر بإرادته وأنه متمسك باستقلاله. غير أن من يتصرف على ذلك النحو يخضع واقعا لأثر الاستطلاعات بما أنه يختار في ضوء ما لم تأت به وذلك وجه من أوجه التأثر بها.

ومن ذلك أيضا أثر “عربة السيرك” المتمثل في أن عددا من الناخبين يغيرون قرارهم بالنظر إلى الاستطلاعات فيختارون المرشح الأوفر حظا بغية الالتحاق براكبي عربة المحتفلين بفوز مرشحهم في الانتخابات وهم أناس يقررون في آخر الحملة الانتخابية ليتأكدوا من المرشح الأوفر حظا. ويشبههم الذين يخضعون لأثر “المقامر” الذي لا يعنيه في الانتخابات إلاّ أن يراهن على “الحصان الرابح”.

وهناك من الناخبين من لا يتأثر بالاستطلاعات غير أنه يراقبها دون اختيار حتى إذا تأكد ألاّ حظوظ لمرشحه اختار مرشحا آخر يخدم انتماءه الأيديولوجي بشكل آخر وهو ما يعرف “بالتصويت المفيد” كما حدث في الانتخابات الرئاسية التونسية عام 2014 عندما صوت عدد كبير للباجي قائد السبسي لصد منافسه محمد المنصف المرزوقي الذي كان يعتبر قريبا من النهضة.

الأثر الطريف

Thumbnail

ويتعامل بعض الناخبين مع الاستطلاعات بعقلانية قوامها الرضا عن الاستطلاعات إذا كانت نتائجها توحي بفوز مرشحهم ويراجعون نظرتهم إلى الواقع السياسي عندما تتضاءل حظوظه وهو أثر “عقلنة النتائج المتوقعة”. وتتعدد آثار نتائج الاستطلاعات، مما لا يسعه هذا المقال، من أثر “التطابق الاجتماعي” وأثر “الرد المعرفي” وأثر “التناسق المعرفي” وأثر “اكتشاف الإجماع” وغيرها.

غير أن الأثر الطريف يبقى “أثر مساندة المستضعفين” المتمثل في دعم هؤلاء في استطلاعات الرأي وفي التصويت لهم يوم الاقتراع. ويأتي ذلك الرد، الذي يتجاوز التأثر بالاستطلاعات، لأسباب أربعة.

 أولها أن عددا من الناخبين يرون أن الاستطلاعات تنتج مجموعة من الآراء مصطنعة لمجموعة من الناس، وهي عينة الاستطلاع، يمثلون مجموعة من ضعفاء الرأي يؤمنون بالاستطلاعات فيصوتون للمستضعف.

هناك جدل حاد في جدوى الاستطلاعات في الإسهام في النقاش العام لأسباب متعددة، منها أن صانعي الاستطلاعات يضعون للصحافيين أجندة النقاش باختيار أسئلة الاستمارة وعرض أجوبتها، غير أن المنطق يقتضي عندئذ حجب الاستطلاعات عن الجميع

وثانيها أن يعْلق مرشح في ذيل الترتيب ويكون منتميا إلى فريق اجتماعي فيسانده “أهله” كما حدث مع المرشح الأميركي جيسي جاكسون في الانتخابات الجزئية للحزب الديمقراطي الأميركي في 1984 ثم 1988. وثالثها أن يحدث تغيير في الترتيب بين استطلاع وآخر فيرى بعض الناخبين في الأمر تلاعبا فيهبون لنجدة المتقهقر المستضعف.

أما آخرها فهو أن يظهر مرشح من غير المنتظرين فترفضه المنظومة فيتمسك به منقذو المستضعفين. ويزيد عددهم ويشتد تصميمهم عندما تتحامل عليه وسائل الإعلام ويعظم عددهم إذا قابل التحامل عليه مساندةُ مرشح آخر يُقَدم على أنه الفائز. وينطبق هذا الوضع في تونس على المرشح نبيل القروي الذي تصدّر الاستطلاعات بسبب محاصرته إعلاميا وسياسيا.

إن علم الرياضيات يقول إنه من المستحيل التكهن بفوز أحد مرشحيْن تفصل بينهما في الاستطلاعات نقطة أو نقطتين، فمهما كانت دقة الاستطلاع وحرص صانعيه فإن فيه هامش خطأ بنقطتين ونصف النقطة إذا كان حجم العينة 1600 شخص ليتقلص الفارق إلى نقطة واحدة بعينة قدرها عشرون ألفا.

إذا صدق استطلاع سيغما في تحديد المرشحين الثلاثة الأوفر حظا فلا شيء غير الصندوق يقول لنا إن ترتيبهم سيكون على ذلك النحو أو على غيره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى