أخبارعالمية

انحياز الجيش التونسي للشعب يجعله “غير مضمون” وهدفا للاختراق من الإخوان

في العاشر من أكتوبر 2012 تسرّب إلى مواقع التواصل الاجتماعي فيديو  يظهر فيه زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي وهو يجتمع مع عدد من رموز التيار السلفي في تونس، متحدّثا إليهم بلهجة الواثق بأن “الجيش غير مضمون والأمن غير مضمون والإعلام غير مضمون” من وجهة نظره طبعا، وفجر يوم 26 يوليو 2021 اتجه الغنوشي ذاته مع عدد من النواب المقرّبين منه محاولا دخول مجلس نواب الشعب للاعتصام داخله بعد قرار تجميده من قبل الرئيس قيس سعيد، لكن الوحدة العسكرية المتمركزة هناك منعته من ذلك.

وبرّر أحد الضباط الموقف بوجود تعليمات بغلق البرلمان، فحاول الغنوشي دغدغة عواطف العسكريين بالقول إن “الجيش التونسي هو من دافع عن الثورة وحماها ننتظر منكم ذلك.. أيها الجيش الوطني”،  وأردفت مساعدته في رئاسة المجلس سميرة الشواشي قائلة “أقسمنا كلنا على حماية الدستور”، ليرد عليها الضابط المناوب “أقسمت على الدفاع عن الوطن”. كان ذلك المشهد الذي تناقله التونسيون بشكل واسع، وبثته قنوات تلفزيونية عدة، مؤشرا على عدم فهم الإخوان لدور المؤسسة العسكرية ولا لمرجعيتها في تنفيذ القرارات.

استعداء مسبق

 قبل سنوات وعندما كان مقيما في لندن، كان الغنوشي قد أكد في مقابلة تلفزيونية إن “الجيش في تونس لا يختلف عن الشرطة، وهو احتياطي للقمع، وعندما تفشل قوات الأمن في مهمتها يتم اللجوء إليه”، تلك العبارات لا يمكن فصلها عن سياق عام لموقف الإخوان من الجيوش، وهو موقف معاد في مجمله لأسباب مرتبطة بتاريخ الصدام بين الجماعة والدولة الوطنية في عدد من البلدان كمصر وسوريا وليبيا والجزائر، وبالنزعة العقائدية للجماعة والتي تناقض عقيدة الجيش في ولائه للوطن أولا، وبما يراه الإسلاميون من خلاف جوهري بين فكرتي العسكر والدين، فالأولى تراهن على حماية الحدود والثانية تنطلق من مبدأ القفز عليها إلى مشروع متجاوز للوطن والوطنية.

محاولات حركة النهضة لتغيير العقيدة المهنية للجيش لم تتوقف، رغم رفضه الاستيلاء على السلطة بعد مغادرة بن علي للبلاد، واختياره حماية الانتقال الديمقراطي، وتحصين حدود الدولة ومؤسساتها

ولذلك، فإن إخوان تونس كأمثالهم في المنطقة، لم يطمئنوا يوما للجيش الوطني، وحاولوا في مناسبات عدة اختراقه من خلال الجهاز السري الذي قاد محاولتي انقلاب، كانت الأولى ضد نظام الحبيب بورقيبة في العام 1987 والثانية ضد نظام زين العابدين بن علي في العام 1991، وقد كشف المدير العام السابق للمخابرات العسكرية موسى الخلفي أن التنظيم السري العسكري لحركة النهضة كان موجودا داخل الجيش منذ ثمانينات القرن الماضي.

تلك المعطيات ثابتة وموثقة لدى القضاء العسكري وهياكل وزارة الدفاع الوطني، من بينها اعترافات القيادي الراحل بحركة النهضة منصف بن سالم والتي كشفت عن وجود عسكريين ذكرهم بالاسم تابعين لتنظيم سري للحركة، مشيرا إلى أنه عندما كان مباشرا لعمله في الأمن العسكري سنة 1989، تلقى رسالة من قبل أحد هذه العناصر أكد فيها بخط يده وجود هذا التنظيم وانتمائه إليه واتصاله المباشر برئيس الحركة آنذاك وهو نفسه الرئيس الحالي لحركة النهضة، إضافة إلى كشف صاحب الرسالة عن اسم المنسق بين الحركة وهذا التنظيم السري، رافضا الإفصاح عن هويته لأسباب تحفظية، وفق تعبيره.

انقلاب النهضة الفاشل

الجيش في نظر الغنوشي خزان احتياطي للقمع

كريم عبدالسلام الخبير في العدالة الانتقالية حاليا وأحد العناصر المخططة والمنفذة لعملية “باب سويقة” الإرهابية ضد مقر الحزب الحاكم آنذاك في فبراير 1991 يقول إن النهضة كانت أعدت العدة لانقلاب عسكري في البلاد كان سيتم في الثامن من نوفمبر 1987، بدأت التخطيط له منذ أواخر السبعينات بعد أن نجحت في اختراق وزرع موالين لها في أجهزة الأمن والجيش وفي مراكز حساسة داخل الدولة، لكن قبل الموعد المحدد استبق بن علي الوزير الأول ووزير الداخلية آنذاك، انقلاب الإخوان بمبادرته بالإطاحة ببورقيبة في عملية بيضاء تم الاعتماد فيها على تقرير طبي يثبت عجز الرئيس الأسبق عن القيام بوظيفته على رأس الدولة.

ويرى عبدالسلام أن مدبري انقلاب النهضة كانوا ينتظرون ساعة الصفر لتنفيذه وأنه تم إلغاء ذلك بتدخل من الاستخبارات الأميركية والإيطالية التي قال إنها دعمت عملية أخرى مشابهة هي انقلاب بن علي وآمر الحرس الوطني وقتها الحبيب عمار، ويضيف أن تفاصيل الجهاز العسكري السري لم تكن متداولة داخل تنظيم الحركة ولم يتم ذكره في مكاتبها ولا خلاياها أو مؤتمراتها، معتبرا أن هذا الجهاز الخاص كان مرتبطا رأسا برئيس الحركة الغنوشي.

ووفقا لتلك الرواية التي يوثقها عبدالسلام فإن من بين قيادات التنظيم العسكري الصادق شورو الذي انطلق في عملية الاقتحام ونظّم عملية الدخول للأكاديمية العسكرية باعتبار أنه كان هو وأخوه يدرسان في الأكاديمية، فقد كانت النهضة في تلك الفترة تشجع كل من ينجح في الثانوية العامة على الالتحاق بالأكاديمية العسكرية. وبعد توليه السلطة، طالب بن علي بمراجعة كل الدورات العسكرية التي أشرف عليها شورو أو حاضر فيها.

المجموعة الأمنية

محاولات مستمرة لاختراق المؤسسة العسكرية

كانت حركة الاتجاه الإسلامي، النهضة لاحقا، قد جندت منذ بداية السبعينات تنظيما محكما استطاع اختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية، ضباطا وأعوان أمن، من أجل التحضير للانقلاب على بورقيبة الذي كان يعيش آخر أيامه في قصر قرطاج،  حسب كتاب “المجموعة الأمنية” للباحث أحمد نظيف الذي يضيف أن “المجموعة الأمنية التي اخترقت عديد الأسلاك الأمنية على غرار الحرس الوطني والشرطة وجهاز المخابرات والجيش الوطني عبر 156 عنصرا، انطلقت في التشكل منذ بداية السبعينات ليبدأ استنفار التنظيم عبر محاولة تغيير النظام الذي أصبح هزليا”. ويذكر نظيف أن من بين أهداف المجموعة الأمنية تحرير قيادات حركة الاتجاه الإسلامي من السجون وإسقاط حكم بورقيبة، ما دفعها إلى التواصل مع شخصيات سياسية من أجل ترشيحها لنيل منصب الرئاسة في ذلك الوقت.

راود ذلك الحلم المجموعة الأمنية التي أشرف عليه القيادي المنصف بن سالم، وكان الأخير قد اتخذ لنفسه مقر قيادة عمليات في منزل بضاحية باردو في العاصمة، عبر تخزين الأجهزة والأسلحة اللازمة لإنجاح المخطط الذي كان يقابله مخطط آخر انطلق من وزارة الداخلية بالعاصمة أشرف عليه وزير الداخلية آنذاك بن علي. وكان الصحبي العمري، وهو أحد أعضاء المجموعة الأمنية، قد شهد أن الغنوشي وخلال لقائه مع بن علي في قصر قرطاج في أعقاب الإفراج عنه في العام 1988 “سلّمه ملف المجموعة الأمنية كاملا في 77 صفحة وفيه تفاصيل تكوينها وأهدافها”، وكان ذلك في سياق الانفتاح على السلطة الجديدة وكمقايضة للحصول على الاعتراف الرسمي والقانوني من الدولة يومها.

الجيش التونسي لم يظهر في صورة من يتدخل في السياسة، ولكن وظيفته المركزية تضعه في موقع التنفيذ لقرارات قيادته، وانحيازه للشعب يجعله مدافعا عن خيارات الشارع

وفي مايو 1991 أعلن وزير الداخلية الأسبق عبدالله القلال عن إجهاض محاولة انقلابية للنهضة على نظام بن علي، وفي صيف 1992 حوكم شورو أمام المحكمة العسكرية بتونس على رأس 265 متهما من قياديي حركة النهضة. وقد طالب الادعاء العام بإعدامه، ولكن اكتفت المحكمة بالحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ليتم انتخابه عضوا في المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011، وتم اعتباره أحد أبرز صقور النهضة ورمزا للتيار السروري القطبي داخلها، وهو ممن تلقوا أوامر صارمة بالاختفاء عن المشهد لعدم التشويش على محاولات تلميع وجه الحركة بعد زعمها التخلي عن الجانب الدعوي.

نشر شورو لاحقا ما قال إنها “رسالة مفتوحة إلى جيشنا الوطني” يحيي فيها المؤسسة العسكرية بالقول “إن ظني بجيشنا

الوطني أن أكثر ضباطه وجنوده هم مخلصون لبلادهم وشعبهم لأنهم ينحدرون من الفئات الضعيفة فيه”، وخاطب شورو ضباط الجيش قائلا “إن الشعب لن يبقى متفرجا إذا ما نجح بعض المنحازين لأعداء الثورة، المندسين في صفوفكم، في تحقيق بعض مآربهم” وفق تعبيره.

لم تفلح كلمات شورو مثلها مثل جهود حركة النهضة في تغيير العقيدة المهنية للجيش التونسي التي تنبني على مبادئ الوطنية والحيادية والتعليم والتدريب والتراتبية وتنفيذ الأوامر الصادرة عن القيادة العليا طالما أنها لا تتناقض مع مصلحة الوطن والشعب. وقد تبيّن ذلك خلال أحداث 2011 عندما رفض الجيش الاستيلاء على السلطة بعد مغادرة بن علي للبلاد، واختار أن يحمي عملية الانتقال الديمقراطي وأن يحصّن حدود الدولة ومؤسساتها ثم وبعد انتخابات أكتوبر 2011 عاد إلى ثكناته.

عقيدة الجيش

الصورة

الجيش التونسي يركز جهوده وبشكل أساسي على مكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد حسب دراسة لمركز كارنيغي أعدها كل من حجاب شاه وميليسا دالتون، فالفراغ السياسي في ليبيا وتموضع الجهاديين السلفيين والجماعات المسلحة على الحدود التونسية بعد سقوط معمر القذافي، خلق سلسلة جديدة من التهديدات الخارجية التي سبق معالجتها. وفي الداخل برزت حالة عدم اليقين التي أعقبت عزل بن علي من منصبه وخيبة الأمل من القادة الذين خلفوه وقرار منح العفو العام للسجناء السياسيين بمن فيهم القادة الجهاديين السلفيين البارزين، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية الهامة التي كانت حاضنة للتطرف ولنمو الجماعات العنيفة في تونس. كما حفزت النزاعات الإقليمية في سوريا وليبيا تكاثر المقاتلين الأجانب، إذ كانت جماعة أنصار الشريعة، وهي إحدى الجماعات المنتسبة للقاعدة، مسؤولة عن بعض أهم الهجمات في البلاد، بما في ذلك الهجوم على السفارة الأميركية في سبتمبر 2012 واغتيال السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في فبراير ويوليو 2013 والعديد من الهجمات على قوات الأمن التونسية بين عامي 2013 و2014  قامت كتائب عقبة بن نافع، وهي فرع آخر للقاعدة، بتنفيذ عملياتها على طول الحدود التونسية الجزائرية وشنّت سلسلة من الهجمات ضد قوات الأمن التونسية في المنطقة الحدودية الجبلية.

خاض الجيش مواجهات حامية الوطيس في المرتفعات الغربية وغيرها، وأقام سياجا بطول 125 ميلا على طول الحدود الليبية للحد من النشاطات الإرهابية عبر الحدود وكذلك الهجرة غير الشرعية والتهريب بمساعدة من شركاء أجانب، وعندما اتسعت جائحة كورونا كلفه الرئيس سعيد بإدارة الأزمة، ويوم انسدت الآفاق أمام الحل السياسي بسبب تعنّت الإخوان ورفضهم لأي مخرجات للحل قد تفقدهم بعضا من امتيازاتهم، تطلع التونسيون إلى دور تقوم به المؤسسة العسكرية التي تحظى بأكبر منسوب ثقة في المجتمع، ليأتي قرار الرئيس بتجميد نشاط البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة وبسط نفوذه على السلطة التنفيذية، والذي رأى فيه الإخوان وحلفاؤهم انقلابا على الدستور، فيما كان على الجيش أن يقوم بدوره في حماية مؤسسات الدولة والسلم الاجتماعي، وأن يمنع الغنوشي والمقربين منه من النواب من اقتحام البرلمان بعد إغلاقه.

لم يظهر الجيش التونسي في صورة من يتدخل في القرارات السياسية، ولكن وظيفته المركزية تضعه في موقع التنفيذ لقرارات قيادته العليا، وانحيازه للشعب يجعله مدافعا عن الخيارات الأكثر قابلية لدى الشارع، كما كان في يناير 2011، وكما هي حاله اليوم، غير أن ذلك كلّه يضعه في المقابل في صورة المؤسسة غير المضمونة لدى الإخوان، حسب تصوراتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى