الأخبار

العالم قبل “غيم بوي” وبعده

من كان يتخيل أنّ جهازا إلكترونيا صغيرا طرحته نينتندو اليابانية للألعاب عام 1989 سيكون فاتحة لبداية عصر تكنولوجي مبهر. وأن الألعاب المتطورة المبنية على تكنولوجيا الواقع الافتراضي والواقع المعزز التي تمزج الواقع بالخيال وتجذب الكبار والصغار هي تطور لجهاز احتفلت نينتندو منذ أيام بمرور 33 عاما على طرحه في الأسواق.

لن نكون مغالين إن قلنا إن الثورة الصناعية الرابعة وثورة الذكاء الاصطناعي والروبوتات مدينة إلى حد كبير لجهاز صغير هو “غيم بوي”.

واعتبر الجهاز، بعد طرحه في الأسواق، ثورة في عالم التكنولوجيا، والأساس الذي بنيت عليه فكرة ألعاب الفيديو والألعاب الإلكترونية. ولاقى عند إصداره إقبال المئات من العملاء المتحمسين، كما حصل على مرتبة الجهاز الأكثر مبيعا في العالم.

أجيال غيّرت العالم

في أيامه الأولى كان جهاز غيم بوي مرفقا بأربع ألعاب فقط، بينها اثنان تحولا إلى أيقونة، الأول سوبر ماريو والثاني هو بوكيمون. وسرعان ما لحقت بها المئات من الألعاب بعد الإقبال المنقطع النظير الذي حظي به الجهاز.

سوبر ماريو وبوكيمون ونينتندو، أكثر من مجرد أسماء مألوفة، إنها أسماء تذكر عندما يتم الحديث عن النمو العالمي الذي حققته صناعة ألعاب الفيديو.

الأجيال التي غيرت العالم وقادت ثورة الذكاء الاصطناعي هي الأجيال التي تربت على ثقافة غيم بوي وثقافة سوبر ماريو وبوكيمون.

والرجل الذي يقف خلف استمرار نجاح نينتندو، في ظروف عرفت الكثير من التحديات والتنافس، هو ساتورو إيواتا، رئيس الشركة من عام 2002 وحتى رحيله عام 2015 عن عمر ناهز 55 عاما بمرض السرطان.

قصة نجاح الشركة كانت موضوع كتابه، الذي انتظر أربع سنوات بعد وفاته لينشر عام 2019، وحمل عنوانا من كلمتين: “اسأل إيواتا”.

من هو إيواتا؟ دعونا نقرأ ما جاء في الكتاب على لسانه “على بطاقتي المهنية أنا رئيس شركة. وفي عقلي أنا مطور ألعاب. أما في قلبي فأنا لاعب”.

ولأنه لاعب، نجح في مشواره المهني، ونجح في أن يجعل من اسم نينتندو على جميع الأفواه. ببساطة أراد إيواتا “اللاعب” أن يقدم المتعة والترفيه لجميع أفراد الأسرة، بغض النظر عن أعمارهم، سواء كانوا ذكورا أم إناثا، بغض النظر عن مستوى مهاراتهم في استخدام التكنولوجيا. السياسة التي اتبعتها الشركة تحت قيادته آمنت بالعنصر الشاب، وإيواتا نفسه كان واحدا من العناصر الشابة. وبفضلهم كتبت قصة النجاح.

المجتمع الياباني، يؤمن بالولاء والجدية بالعمل، وهو مجتمع يقدر ويحترم كبار السن ويرعاهم، ولكنه مجتمع يحترم خيارات العناصر الشابة ويثق بقدراتها على تحمل مسؤولية البناء والتطوير.

قصص النجاح في اليابان تتحدث عن ذلك: سويشيرو هوندا، مؤسس شركة صناعة السيارات التي تحمل اسمه؛ في سن الخامسة عشرة قرر أن يترك المدرسة ويغادر قريته الفقيرة متجها إلى طوكيو مطاردا أحلامه. بدأ المشوار من محل بسيط لتصليح السيارات. وبعد ست سنوات قام باقتراض مبلغ من المال ليفتتح مشغلا خاصا به. وفي نفس العام استطاع أن يخترع مكابح للسيارات. لتتوالى بعدها الاختراعات، حيث استطاع أن يسجل أكثر من 150 براءة اختراع هذا بالإضافة إلى 470 ابتكارا.

مستر نودلز

الأجيال التي قادت ثورة الذكاء الاصطناعي هي الأجيال التي تربت على ثقافة غيم بوي وسوبر ماريو وبوكيمون
الأجيال التي قادت ثورة الذكاء الاصطناعي هي الأجيال التي تربت على ثقافة غيم بوي وسوبر ماريو وبوكيمون

الرجل الذي وصف نفسه بأنه وَلَدٌ فاشل يوما، تسمّر أمام أول سيارة رآها، ليؤكد في ما بعد أن هذه اللحظة ولدت لديه فكرة تصنيع سيارة من تصميمه. وكان له ما أراد.

قصة نجاح موموفوكو أندو (يعرف بلقب مستر نودلز) لا تقل غرابة عن قصة نجاح مواطنه هوندا. ولكن أندو، الذي بدأ وهو في سن الثانية والعشرين شركة لتصنيع المنسوجات، لم يحقق قصة نجاحه من ابتكار في الصناعات الثقيلة بل من “كوب نودلز” (معكرونة شريطية رفيعة بنكهات مختلفة يضاف إليها الماء الساخن فقط لتصبح جاهزة للأكل) الذي حقق مبيعات قياسية سنوية بلغت 5.5 مليار وحدة في اليابان وحدها. وفي جميع أنحاء العالم يتم استهلاك ما يقرب 100 مليار وحدة سنويا، الأمر الذي جعل من المنتج “غذاءً عالمياً”.

النجاح الذي حققه هوندا في تصنيع السيارات وحققه أندو في الغذاء، حققه أكيو موريتا في الإلكترونيات، فهو مؤسس إمبراطورية سوني للإلكترونيات.

منذ الصغر حرص موريتا على مشاركة والده الاجتماعات التي يعقدها مع موظفيه، وبعد حصوله على الثانوية سعى لدراسة الفيزياء.

بعد انتهاء الدراسة تطورت أعماله التي بدأها بمتجر صغير في مدينة طوكيو، لتصبح شركة عملاقة واسعة الشهرة، ساهمت في دعم انتعاش الاقتصاد الياباني لاحقًا.

قصة نينتندو لم تبدأ في العام الذي استلم فيه إيواتا قيادة الشركة، ولم تبدأ عام 1989 بطرحها غيم بوي. قصتها أقدم من ذلك بكثير.

بدأت شركة نينتندو، ومقرها كيوتو، نشاطها عام 1889 وتخصصت في صناع أوراق اللعب اليابانية التقليدية. مئة عام قبل سوبر ماريو وبوكيمون. شهدت الشركة خلال 130 عاما العديد من الصعاب والإخفاقات، مثلما شهدت نجاحات وانتصارات.

ورغم النجاح الذي حققته الشركة بإطلاق غيم بوي الذي احتفلت بذكراه المئوية، إلا أنها جابهت تحديات يعود الفضل في تجاوزها لإيواتا الذي شهد عهده طرح نينتندو وي ونينتندو دي.أس المحمول، والأهم اتخاذ قرار تصميم ألعاب للهواتف الذكية، وصل عددها إلى 980 لعبة قبل وفاته.

شهد أداء الشركة صعودا وهبوطا، وأكبر نكسة واجهتها الشركة كانت عام 2012 عندما طرحت جهاز وي.يو لتقرر إيقاف إنتاجه في مطلع عام 2017 بعد أن فشلت في تسويقه؛ باعت أقل من 15 مليون وحدة على مستوى العالم. بالمقارنة بيعت من جهاز وي القديم أكثر من 100 مليون وحدة.

استطاعت الشركة أن تتجاوز نكسة وي.يو، وطرحت بداية من 3 مارس 2017 جهاز الألعاب نينتندو سويتش الذي يتيح للاعبين تجربة جديدة من خلال توفير عدة أوضاع للعب. وقالت نينتندو “إن الجهاز مصمم للعب في أيّ مكان من خلال التحول بسهولة من جهاز منزلي للألعاب إلى جهاز محمول”.

وصفة للنجاح

لم يكن تأثير وباء كورونا الذي اجتاح العالم سلبيا على عائدات الشركة، بل على العكس ساهمت الجائحة من رفع المبيعات، بعد فرض العزلة على الناس. وتضاعفت أرباح الأشهر التسعة حتى ديسمبر 2020، مقارنة بالعام السابق لتصل إلى ما يقارب 3.4 مليار دولار.

"اسأل إيواتا".. كتاب للراغبين بمعرفة سر نجاح التجربة اليابانية
“اسأل إيواتا”.. كتاب للراغبين بمعرفة سر نجاح التجربة اليابانية

ما هي الوصفة التي تتبعها الشركات اليابانية لتجاوز الفترات الصعبة؟

أستاذ إدارة الأعمال في جامعة كيو، كينشو كيكوزاوا، يجيب على هذا التساؤل قائلا “إن نقاط قوة الشركات اليابانية تكمن في ممارساتها التقليدية، مثل التوظيف مدى الحياة، وزيادة الرواتب حسب الأقدمية، والتي لا تزال هذه الممارسات تميز الشركات الكبرى بما في ذلك نينتندو. ويولد هذا بدوره ولاء الموظفين، وهو ما يراه كيكوزاوا مهما خاصة في الشركات التي يتطلب العمل فيها الإبداع”.

ويؤكد أنّ “على الشركات اليابانية أن تلتزم بكونها يابانية وتواصل مسيرتها كما قادها إيواتا. نينتندو شركة يابانية تقليدية يحبها موظفوها ويكنون الولاء لها. هذا النوع من الالتزام العاطفي يسمح للشركة بالتغلب على الصعوبات، حتى خلال فترات الأزمات المالية، حيث يكثف الموظفون جهودهم ويعملون بجد لعكس التراجع”.

عرض شيجيساتو إيتوي، وهو كاتب وممثل ومصمم سلسلة ألعاب نينتندو “إيرث باوند”، مقاطع من كتاب إيواتا على موقعه الشخصي على الويب، معلقا “لم أره أبدا يلوم أحدا أو يتكلم بالسوء تجاه أي شخص”.

وبدلا من ألعاب القتال الكبرى على غرار هوليوود، تتفوق اليابان في الألعاب السلمية.

وقال كينسوكي يابي، الأستاذ في كلية الدراسات العالمية بجامعة تشوكيو، إن إيواتا سعى لجذب الأشخاص الذين لم يسبق لهم أن لعبوا الألعاب الإلكترونية. وحرص على التأكد من أن تكون أجهزة نينتندو مصممة لغرف المعيشة.

عندما طُرحَ جهاز غيم بوي وي، أصر إيواتا على أن يطلق على وحدة التحكم اسم “ريموت”، وهو مصطلح مألوف يستحضر أجهزة التلفزيون بدلا من مصطلح “كونترولر”. مؤكدا أن لعبة الفيديو “تكون ممتعة عندما يمكنك الاستمتاع بمشاهدة شخص ما وهو يلعبها”.

ما من شك في أن الكتاب، الذي سيطرح قريبا في الأسواق باللغة الإنجليزية ونأمل أن نراه أيضا باللغة العربية، سيحظى بترحاب كبير. ليس فقط من عشاق سوبر ماريو وبوكيمون، بل من كل راغب بمعرفة سر نجاح التجربة اليابانية. وكيف خرجت بلاد دمرتها الحرب من تحت الأنقاض لتترك بصمة واضحة على الاقتصاد العالمي.

حكاية إيواتا مع نينتندو شبيهة بحكاية سويشيرو هوندا مع شركة صناعة السيارات العملاقة هوندا، وشبيهة بحكاية موموفوكو أندو مع كوب النودلز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى