الأخبار

السلطة في السودان: من الحزب الحاكم إلى الجيش الحاكم

السلطة في السودان: من الحزب الحاكم إلى الجيش الحاكم

الرئيس السوداني عمر حسن البشير يجر المؤسسة العسكرية نحو مأزق الاختيار بين الشعب والرئيس.

يشهد السودان موجة تظاهرات بدأت احتجاجا على رفع أسعار الخبز ثلاثة أضعاف، لكن تحوّلت إلى احتجاجات ضد حكم الرئيس عمر حسن البشير. لم تهدأ هذه الاحتجاجات منذ 19 ديسمبر 2018، وبقدر ما يعلو صوت الاحتجاجات أكثر يزداد تمسك البشر بالسلطة التي يحكم قبضته عليها منذ ثلاثين عاما. وكلما بدا أن قبضة النظام سترتخي أمام قوة الغضب الشعبي، بحث الرئيس السوداني عن بديل جديد يحكم به هذه القبضة. وتجلّت أحدث خطوة في هذه المعركة المصيرية في تخلي البشير عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني وانحيازه الكامل للمؤسسة العسكرية، بعد أن استنفد أوراق الإسلاميين وفقد المؤتمر الوطني كل فرصه.

أدرك الرئيس السوداني عمر حسن البشير متأخرا أن عهد الأحزاب السياسية التقليدية يتراجع. وبدأ في تغيير الدفة من حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم إلى المؤسسة العسكرية، وتفويض أحمد محمد هارون بإدارة الحزب، بدلا منه، كان خطوة مهمة نحو التخلّي عن الحزب ودخوله دوامة من المشكلات الهيكلية.

تستمد غالبية الأحزاب قوتها من اعتمادها على رئيس الجمهورية، وإذا كانت في غالبية دول العالم تصنع الرئيس فإنها في معظم الدول العربية التي ترتكن على البنية العسكرية كأداة للحكم يحدث العكس، حيث يصعد الرئيس ثم يفكر في تكوين حزب بالشروط والمزايا التي يريدها.

وحتى هذه بدأت تتوارى نسبيا، لأنها بدأت تضع الرئيس موضع تساؤل وانحياز للحزب الذي شكله، ما يفقده صفة الرئيس القومي، ولذلك يميل بعض الحكام المنحدرين من المؤسسة العسكرية إلى التخلّي عن صيغة حزب الرئيس في بلدانهم، وهو ما يفعله عمر البشير الآن، وهي وسيلة مستترة لقتل الحياة السياسية برمتها، وغلق المجال العام أمام القوى، من خارج الجيش.

يفوق الجيش السوداني غيره من الجيوش في المنطقة، من حيث عمق انخراطه في الحياة السياسية، ودرايته الكبيرة بما يدور في الشارع. وقد تكون طبيعة المشكلات التي تمر بها البلاد منذ عقود سببا رئيسيا في الجمع بين المعادلة الأمنية والسياسية؛ فالأزمات التي أصبحت المؤسسة العسكرية ضلعا فيها ليست بعيدة عن الحياة المدنية، وتتداخل فيها الأحزاب مع المكوّنات المجتمعية والطائفية.

زادت المحتويات السياسية في الجيش، مع صعود البشير إلى السلطة عام 1989، لأن ما يسمى بثورة “الإنقاذ” جمعت طبقة من العسكريين والسياسيين في بوتقة واحدة. ويتم ترجيح كفة كل طرف حسب التوازنات التي تقتضيها رؤية الضغمة الحاكمة، وتغييرها يخضع دوما لحركة الشارع.

كانت كفة الميزان متعادلة إلى حد كبير، تصعد وتهبط، لكنها في النهاية متقاربة، إلى أن اندلعت تظاهرات 19 ديسمبر الماضي في مدينة عطبرة، وقادت نتائجها إلى إعادة النظر في مسلمة حزب المؤتمر الوطني الحاكم كذراع سياسي للحركة الإسلامية، وتيقن الرئيس السوداني أن الذراع والجسد لن يستطيعا مجابهة الطوفان المقبل من وراء التظاهرات.

انتبه البشير إلى تراجع أهمية الأحزاب مع تصاعد حدّة التظاهرات، والتي أكدت أن السودان الحافل بقوى من مشارب واتجاهات متباينة غير قادرة على تحريك الشارع، بينما حركته جماعات غير مؤدلجة وغير منظمة سياسيا.

لا رغبة للنظام لتقديم تنازلات سياسيةلا رغبة للنظام لتقديم تنازلات سياسية

وتبيّن أن حزب المؤتمر الوطني نهشته الخلافات الداخلية. ونفذ رصيده الاصطناعي. ولم يستطع التكيف مع المستجدات. وأخفقت الكوادر في إثبات أنها رديف حقيقي للرئيس، وهو ما منح الفرصة للمحتجين للتمادي في وقفاتهم، بل دخلت عليهم فئات مهنية وسياسية لم تكن تعتقد أن الحزب الحاكم بهذه الهشاشة، ولن يتمكن من التصدي للتظاهرات بأخرى مقابلة.

أدّى إخفاق القيادات الحزبية في جميع الولايات السودانية إلى انكشاف عورات الحزب أمام مؤيديه الذين كانوا يعولون عليه في حمايتهم من طوفان المتظاهرين. ربما تكون الأزمة الاقتصادية المحتدمة عاملا مهما في هذا الفشل، لكن طريقة التعامل معها فضحت الكسل السياسي داخل لجان الحزب. وتأكد أنه يستقوي بالدعم الرسمي الذي يقدمه الرئيس والمؤسسات التابعة له ولا يملك ركائز مجتمعية.

عندما فرضت الأزمة على هؤلاء الانخراط مباشرة فيها، لم تكن الهياكل الحزبية مستعدة، وظهرت عليها علامات تآكل كبيرة، بدليل عجزها عن الإيحاء بأنها موجودة في الشارع، فهي لم تحرك ساكنا تقريبا، أو تتمكن من ممارسة دور يشعر معه النظام الحاكم بقدرتها على توفير الغطاء السياسي اللازم له وحمايته في الشارع، من خلال تقديم خطاب جديد يستوعب حملات التحريض لمواصلة الاحتجاجات.

بدت مناورات النظام الحاكم بالورقة السياسية منذ بداية الأزمة غير مجدية، واكتشف أن الجيش وقوى الأمن المفتاح الذي يعينه على التصدي للتصعيد المتزايد في الشارع، وأن الحزب مجرد غطاء لا معنى له في الوقت الراهن، ما ينسجم مع تصورات كثيرة تتبنّاها دول عدة في المنطقة لحماية نظمها السياسية.

يؤكد تخلّي البشير عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني انحيازه الكامل للمؤسسة العسكرية، التي أصبحت ضامنا أساسيا له، وتخلّى عن الاعتماد عليهما بالتوازي، خوفا من أن يقطف الحزب الثمار من الأجهزة الأمنية التي بدأت أدوارها تلمع منذ بدايات الأزمة، باعتبارها الجهة الوحيدة المنظمة والمنضبطة وتستطيع مجابهة المتظاهرين بالحسم، ومعها من الإمكانيات والآليات ما يسمح للقيام بمهامها بغطاء قانوني، بينما يقف الحزب عاجزا، لأنه يفتقر للوسائل التي تساعده على التحرّك بمرونة كافية، وتم وضع كل طرف في حجمه الحقيقي.

الاعتماد على الجيش يستوجب بالتبعية توسيع أدواره وإغراءاته، وهي المعضلة التي ستواجه البشير، لأنها قد تحرف المؤسسة التي يرتكن عليها عن مهمتها الرئيسية

تيقن النظام السوداني أن التعويل على الحزب يبعث بإشارات خاطئة للحكومة والمعارضة، فالأولى كان يساورها اعتقاد أن لها اليد السياسية الطولى في البلاد، ما يؤثر سلبا على تماسك الجيش، الذي حظي بمكانة خاصة في تقديرات البشير خلال العامين الماضيين، والثانية ستفهم أن وضع حزب المؤتمر الوطني في الواجهة معناه فتح طاقة أمل للحلول السياسية، بما يغري القوى الحزبية على التصلب في مواقفها.

والأكثر أهمية أن البشير أراد من وراء تنحية الحزب قليلا في المواجهة مع الشارع، توصيل رسالة في غاية الأهمية للدول القلقة من تراكم نفوذ الحزب، وتراه بحسبانه جناحا سياسيا صرفا للحركة الإسلامية، وحتى لو كان هذا الاعتقاد له كرامات واضحة في المؤسسة العسكرية أيضا، ففي النهاية هناك هامش للحركة يجعل الجيش أقل تمسكا بالثوابت الإسلامية في العلن، أو على الأقل تقتصر المسألة على القيادات العليا، فلا يملك الإسلاميون الكوادر الكافية للهيمنة تماما على الجيش وأجهزة الأمن.

وجدت معادلة التحوّل الكبير من الحزب الحاكم إلى الجيش الحاكم، أصداء إيجابية في الدول التي تميل إلى دعم الجيوش كأحد صمامات الأمان للحكم في المنطقة، وتلك التي تريد تخفيف قبضة الإسلاميين والقوى الداعمة لهم، وفي دولة مثل السودان مترامية الأطراف في جغرافيتها ومشكلاتها، يبدو الجيش مدخلا مناسبا لمنع الانهيار أو تأجيله لحين التوصل لمسكّنات تخفّف وطأة الأزمة الحالية أو تساعد في تسويتها.

قطع الرئيس السوداني الطريق على حزب المؤتمر الوطني في المستقبل، عندما قام بتغيير جميع حكام الولايات الـ18، وحلّ مكانهم قيادات عسكرية وأمنية صرفة، كي يمنحهم حرية التواصل مع القيادات العليا في الدولة، والتناغم مع الأدوات التي سيتم الاستقرار عليها للتعامل مع المستجدات، وهي إشارة بالغة تدعم الاستعداد للتعاطي مع التطورات في الشارع وفقا للخيار الأمني فقط.

البشير يعتقد أن المؤسسة العسكرية هي الضامن الأساسي للبقاءالبشير يعتقد أن المؤسسة العسكرية هي الضامن الأساسي للبقاء

أثبت المسؤولون المدنيون، ممن يفترض أنهم قادرون على معالجة الأزمات من دون تلويح بالعصا، عجزهم في المحكات التي مرت بها البلاد خلال الفترة الماضية، وتسلح البشير بالحكم العسكري بلا أقنعة هذه المرة، وهي علامة تشير إلى عدم الرغبة في تقديم تنازلات سياسية يمكن أن تحلحل الأزمة بعيدا عن الحلول الأمنية. يضعف اللجوء إلى هذا الخيار كل الحُجج السياسية والاقتصادية، ويعزز القبضة الحديدية كباب وحيد، ويدحض الرسائل الإيجابية التي حاول الرئيس البشير توصيلها للمتظاهرين من وقت لآخر، والأهم أنها توقف على أي دور سياسي يمكن أن يقوم به حزب المؤتمر الوطني الفترة المقبلة، بدءا من إجراء حوارات مع قوى المعارضة وحتى التحشيد داخل هياكله.

وإذا كان من دور يمكن أن يلعبه حزب المؤتمر في هذا المشهد سوف يكون دورا مكمّلا لمهام المؤسسة العسكرية، ولعل اختيار أحمد هارون والي شمال كردفان السابق، والمعروف بتوجهاته الأمنية في حرب كردفان، ولمع قبل ذلك دوره في أزمة دارفور، بكل أبعادها المسلحة، يعزز منهج الصرامة الذي قرر البشير التعامل به ويضعف الحجج التي يركن لها أي حزب تواجه قيادته العليا أزمة مركبة، تتشابك فيها الأبعاد الاقتصادية مع السياسية، وقد تقود إلى أبعاد أخرى مجهولة.

على هذا المنوال، تتجه الخطوات المقبلة للرئيس السوداني نحو عسكرة الحياة المدنية، لأن الاعتماد على الجيش لتأمين نظام الحكم يستوجب بالتبعية توسيع أدواره وإغراءاته، وهي المعضلة التي ستواجه البشير، لأنها قد تحرف المؤسسة التي يرتكن عليها عن مهمتها الرئيسية وتضعها في مواجهة مباشرة مع القوى المدنية، بما يحد من تأثير الأولى في المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى