تقنية

البودكاست: حرب للسيطرة على راديو ما بعد عصر الراديو

البودكاست: حرب للسيطرة على راديو ما بعد عصر الراديو

البودكاست خدمة لقيت انتشارا واسعا في العالم حيث شكلت ثورة متسارعة في استثمار الأوقات المهدورة خلال أداء الأعمال والنشاطات الروتينية.
قفزت خدمة البودكاست فجأة إلى صدارة اهتمام الشركات والأفراد لتفتح آفاقا واسعة لراديو ما بعد عصر الراديو، وامتدت خارطة تقديم البث الصوتي التدفقي من الموسيقى إلى المقالات والآراء والكتب، بعد تضاؤل مساحة القراءة مع تسارع ايقاع الحياة الحديثة.
ويكمن سحر البودكاست في أنه يستقبل بحاسة واحدة هي السمع، والتي يمكن مع انشغالها بالاستماع إلى الموسيقى أو المقالات والدراسات والكتب، أن تتفرع الحواس الأخرى لأداء أعمال يدوية أو ممارسة التمارين الرياضية أو التنقل في الشوارع والأسواق.
وبذلك يملك البودكاست ميزة تتفوق على القراءة ومشاهدة التلفزيون ومواقع البث، التي تتطلب التفرغ التام. ونتيجة ذلك بدأت تتطور نوعية وتشكيلة محتوى البودكاست ودرجة وضوح الصوت بالتزامن من تطور الأجهزة، التي يمكن من خلالها الوصول إلى تسجيلات البودكاست.
كما أن بث البودكاست التدفقي يحرر المستخدمين من انتظار مواعيد البرامج، بالمقارنة مع الإذاعات المباشرة ومن الخضوع لاختياراتها المحددة، مثلما حرر البث التلفزيوني التدفقي المشاهدين من انتظار مواعيد بث المسلسلات والأفلام.
ويكمل صعود نجم البودكاست دورة طويلة من تحولات ميول الجمهور بعد التحول قبل عقود طويلة من الراديو إلى التلفزيون، ثم أعقب ذلك اتساع دور مواقع التسجيلات المصورة مثل يوتيوب، ثم تلاها البث التلفزيوني التدفقي، وصولا إلى عودة الاعتبار للبث الإذاعي عبر خدمة البودكاست.

موجة إقبال متصاعدة

أصبحت خدمة البودكاست اليوم تستقطب جميع أنواع الشركات والأفراد، إضافة إلى تسابق شركات التكنولوجيا على توسيع محتوى منصاتها وتطبيقاتها، التي لا يخلو منها اليوم أي جهاز إلكتروني محمول.
وانضمت جميع الصحف ووسائل الإعلام لتعزيز دور البودكاست من خلال تسجيل المقالات والتقارير، ليتمكّن المستخدمون من الاستماع إليها بدل قراءتها في غمرة انشغالهم بأداء الأعمال أو الطبخ أو التسوق أو ممارسة التمارين الرياضية.
هبة فيشر: صناعة البودكاست أكدت قيمتها الواضحة لدى المســتمعـيـن والمستـخـدميـن وهي مستقبل الإعلام
ولم يعد نشاط بث محتوى البودكاست يقتصر على الشركات حيث امتد إلى الكتاب والمشاهير والأفراد العاديين، الذين يحقق بعضهم عوائد كبيرة من إعلانات ترتبط بمدى نجاح ما يبثونه في الوصول إلى أعداد كبيرة من المستمعين.
ومثلما أصبحت حصة شركات البث التدفقي مثل نتفليكس أكبر بكثير من حصة قنوات البث التلفزيوني المباشر، فإن البودكاست يتجه لانتزاع الحصة الأكبر من وقت الاستماع على حساب محطات الراديو المباشرة.
ويعود أصل كلمة بودكاست إلى مقطعين، ينحدر الأول من تسمية آي.بود، أول جهاز قدمته أبل للاستماع للموسيقى، وجاء المقطع الثاني من كلمة “برودكاست” التي تعني إذاعة باللغة الإنكليزية.
وكانت أولى خطوات البودكاست قد بدأت مع طرح أجهزة آي.بود في عام 2007 والذي قدم وسيلة حديثة للاستماع للموسيقى. لكن هذا القطاع اتسع بسرعة فلكية في السنوات الأخيرة، بسبب الإقبال الكبير عليه في ظل تسارع إيقاع الحياة وعدم وجود وقت للقراءة.
في بعض البلدان مثل الولايات المتحدة، أصبح من النادر وجود رائد أعمال أو كاتب أو مفكّر لا يقدّم تسجيلات بودكاست، مثل الكاتب مالكولم غلادويل ومؤسس موقع “لينكد.إن” ريد هوفمان ومعظم الكتّاب والممثلين والرياضيين والمشاهير الآخرين.
وأصبحت تلك الشخصيات، حريصة على بت تسجيلات بودكاست مجانية بسبب شيوع الاستماع إليها في الولايات المتحدة، واحتلالها دورا أساسيا في الوصول إلى الجمهور.
وتشير بعض الدراسات الإحصائية إلى أنّ نسبة الذين يستمعون إلى البودكاست في الولايات المتحدة وصلت إلى نحو 40 بالمئة من سكان البلاد، أي ما يزيد على 100 مليون نسمة، وهي تواصل الارتفاع باستمرار وبإيقاع سريع.

بوابة للتعليم والدراسة

يملك البودكاست مزايا كثيرة يمكن أن تجعله إحدى أكبر نوافذ التعليم والدراسة بسبب سهولة الاستخدام، حيث يمكن الاستماع إلى التسجيلات خلال قيادة السيارة أو القيام بأي نشاط أو عمل روتيني لا يحتاج إلى التركيز الكامل.
كما أنه متاح عند الطلب، على عكس برامج التلفاز والراديو والفعّاليات المختلفة، حيث لا يحتاج المستخدم إلى تخصيص وقت محدد، بل يمكنه الاستماع في الزمان والمكان الذي يريده.
ولا يحتاج البودكاست إلى توفر الإنترنت، حيث يمكن الاستماع مختاراته بعد تحميلها على الهاتف أو أي جهاز إلكتروني.
ويتيح البودكاست فرصة كبيرة لاستغلال الوقت المهدر وتحويله إلى وقت ثمين يساعد في التعلم وتوسيع الآفاق الثقافية، أثناء التنقل في وسائل النقل أو ممارسة التمارين الرياضية.
وهناك ميزة أن المعلومات تصل إلى المستخدم دون أن يذهب إليها، من خلال الاشتراك في برامج البودكاست للحصول على الحلقات الجديدة على الهواتف الذكية دون الحاجة إلى بذل أي جهد.
ويعد البودكاست وسيلة مثالية لتحقيق لانتشار وإيصال الآراء إلى جمهور واسع وهو قطاع في نمو مستمر وقد يحمل آفاقا أوسع في المستقبل. ويمكن لأي شخص إنشاء بودكاست خاص يمكن أن يحقق الانتشار إذا تمكّن من جذب اهتمام الجمهور.
وهناك أعداد متزايدة من الأشخاص الذين حققوا نجاحات كبيرة من خلال البودكاست وأصبحوا يحققون عوائد كبيرة من خلاله.

انتشار في العالم العربي

البودكاست سينتشر أكثر في المنطقة والعالم
البودكاست سينتشر أكثر في المنطقة والعالم 
تشير التقديرات إلى أن البودكاست بدأ ينتشر على نطاق واسع في الدول العربية لأنه يستأثر بأوقات لا تنازعه فيها وسائل الترفيه والاطلاع الأخرى.
وتقول رنا نوّاس، المواطنة البريطانية من أصول فلسطينية ولبنانية، إنها فوجئت بالنجاح الذي حققته في مجال البودكاست، وهو ما دفعها لترك وظيفتها المرموقة كنائب رئيس لإحدى الشركات.
وتفرّغت نوّاس منذ عامين لإنتاج المدوّنات الصوتية عبر الإنترنت في دبي، لتصبح أكثر مقدمات البودكاست شعبية في الشرق الأوسط، والذي يحمل عنوان “عندما تفوز النساء”. ويسلط الضوء على قصص نجاح سيدات من مختلف أنحاء العالم والمنطقة العربية.
وتقول شركة أبل إنه ذلك البودكاست هو الأول في المنطقة العربية من حيث عدد المستمعين. بل إنه يملك مستمعين في 144 دولة، تتركّز غالبيتهم في السعودية وعدد من الدول العربية مع أن البرنامج باللغة الإنكليزية.
وترى نوّاس أن البودكاست سينتشر أكثر في المنطقة والعالم لأن “الناس سيصبحون أكثر انشغالا ويحتاجون إلى طرق لمتابعة المحتوى كنشاط مواز لنشاطاتهم الروتينية. ولذلك فإن البودكاست طريقة رائعة لتنمية ذاتك عند القيام بأمور أخرى مثل التنقّل أو الطبخ أو غير ذلك”.
كما حقق بودكاست “دكان شو” الذي يقدّمه الشاب السوداني عمر توم مع اثنين مع أصدقائه، شعبية واسعة في الإمارات والسعودية والمنطقة، وكذلك في مناطق أخرى من العالم منذ انطلاقه في عام 2016، وهو يبث أيضا باللغة الإنكليزية.
وتستند فكرة البودكاست إلى جلوس ثلاثة أصدقاء مع ضيف لتجاذب أطراف الحديث من فكرة الدكان، أي المحل التجاري. ويتم التسجيل في أستوديو تابع لشركة “دكان ميديا” التي قام بتأسيسها الأصدقاء الثلاثة في دبي.

مزايا البودكاست كوسيلة تعلّم

*سهولة الاستخدام خلال ممارسة النشاطات الروتينية
*الاستخدام عند الطلب والاستماع في أي زمان ومكان.
* استغلال الوقت المهدر في التعليم وتوسيع الثقافة
*المناهج والمعلومات تصل إليك دون سعي إليها
* عدم الحاجة للإنترنت بعد تحميل المختارات
*وسيلة مثالية للانتشار والوصول لجمهور واسع
ويقول توم الذي نشأ في دبي إن البودكاست ناجح لأنه “يتحدث عن هوية لم يتم تناولها لفترة طويلة للغاية. وهي هوية أبناء الثقافة الثالثة أو الشتات” أي الذين نشأوا في ثقافة مختلفة عن ثقافة الأبوين.

شركات ناشئة

هناك اليوم أعداد متزايدة بوتيرة سريعة من الشبان العرب الذين يفضّلون الاستماع إلى ملفات البث الصوتي المتفق بدل الإذاعات التقليدية. وهو ما شجع ظهور أعداد كبيرة من الشركات الناشئة في صناعة البودكاست.
وتؤكد ريم حميد، التي تشارك في تقديم “دكان شو” وهي كندية من أصول عراقية وفلبينية أن البودكاست سينشر بقوة في العالم العربي “لدينا تقليد مذهل في سماع الإذاعة. إذا فكّرنا بعمق تاريخ الراديو في العالم العربي، فإن البودكاست هو امتداد رقمي طبيعي لذلك”.
وحصل بودكاست “كيرنينغ كالتشرز” المتخصّص في إنتاج مدونات صوتية من ثقافات ودول مختلفة في العالم العربي، على تمويل أولي الشهر الماضي، ليصبح أول منصة تحصل على تمويل في المنطقة.
وقالت هبة فيشر الرئيسة التنفيذية والشريكة المؤسسة للبودكاست إن “التمويل الأولي مؤشر قوي على صناعة البودكاست ويعني أنها تؤخذ بجدية وأن قيمتها لدى المستمعين والمستخدمين واضحة. البودكاست هو مستقبل الإعلام”.
تكشف المنازعات القضائية بين كبرى منصات البودكاست حجم المنافسة على تحقيق العوائد الكبيرة، التي تأتي من اشتراكات شهرية، تتجه إلى المنصات الأوسع من حيث تقديم المحتوى.
ورغم التنوع المتسارع لتسجيلات البودكاست إلا أن حقوق بث الأعمال الموسيقية لا تزال حجر الزاوية في المنصات الكبيرة ذات الاشتراكات الشهرية، وهي تتنافس لاحتكار أشهر المطربين والموسيقيين.

منافسة شرسة

ويتجه الاتحاد الأوروبي إلى التحقيق رسميا في شكوى تقدمت بها شركة تطبيق سبوتيفاي، التي تتهم شركة أبل بانتهاك قواعد الاحتكار بسبب قدرتها الكبيرة على جذب المطربين والموسيقيين والمشاهير وحرمان منافسيها من تقديم أعمالهم.
كما تخشى سبوتيفاي من التضييق عليها من خلال وسائل الدفع الخاصة بشركة أبل على أجهزة أيفون وآيباد وغيرها من الإلكترونية المحمولة.
ولذلك أخذ الاتحاد الأوروبي تلك الشكوى على محمل الجد لأنها تتعارض مع قوانين منع الاحتكار.
ريم حميد: البودكاست سينتشر بقوة في العالم العربي لدينا تقليد مذهل في سماع الإذاعة والبودكاست امتداد رقمي لها
وكانت سبوتيفاي قد تقدمت بشكوى رسمية إلى الاتحاد الأوروبي في شهر مارس الماضي. وزعمت فيها أن شركة أبل قد تصرفت بصورة غير قانونية، وأساءت استخدام هيمنة متجر التطبيقات التابع لها لصالح خدمتها الخاصة ببث الصوتيات (أبل ميوزيك).
وتركز الشكوى على سياسة شركة أبل المتمثلة في فرض رسوم بنسبة 30 بالمئة على استخدام نظام الدفع الخاص بها للاشتراكات المباعة عبر متجر التطبيقات التابعة لها. وتنطبق هذه السياسة على سبوتيفاي، وخدمات الاشتراك في تطبيقات الموسيقى الأخرى، لكنها لا تطبّق على تطبيقات أخرى مثل أوبر.
ورغم أن سبوتيفاي شركة كبيرة وتملك أكثر من 100 مليون اشتراك في خدمتها لبث الموسيقى والتسجيلات الصوتية، فإنها تخشى أيضا من فقدان حقوق أهم التسجيلات التي تقدمها، الأمر الذي يقلّص الاشتراكات وقد يؤدي إلى انهيارها.
وتخشى شركات بودكاست أخرى كثيرة من الترسانة المالية الهائلة التي تملكها شركات مثل أبل وأمازون، والتي سيمكنها سحق جميع المنافسين بتقديم إغراءات أفضل للفنانين والمطربين والموسيقيين والمشاهير، لمنعهم من منح حقوق بث أعمالهم لشركات.
وتقول سبوتيفاي إنها إذا “دفعت تلك الرسوم فسوف تضطر لزيادة سعر الاشتراكات لتصبح أعلى بكثير من سعر خدمة ‘أبل ميوزيك’ الأمر الذي يمنح الأخيرة ميزة تنافسية غير عادلة”.
ويؤكد دانيال إك المؤسس المشارك لشركة سبوتيفاي إن الشكوى المقدمة إلى بروكسل “ليست قضية سبوتيفاي ضد أبل، بل قضية عدالة يجب أن نكون جميعًا خاضعين لنفس المجموعة العادلة من القواعد والقيود، بما في ذلك أبل ميوزيك”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى